«

»

الحوار مع الآخر في الإسلام

بقلم المرحوم أ.د. أحمد صدقي الدجاني

د. أحمد صدقي الدجاني

موضوع هذا البحث هو “الحوار مع الآخر في الإسلام”. وهو مقدم لمؤتمر “الإسلام وقضايا العصر” الذي دعت إليه “اللجنة الوطنية العليا لإعلام عَمان عاصمة للثقافة العربية عام 2002″. وقضايا العصر التي يناقشها المؤتمر فضلاً عن قضية الحوار مع الآخر هي قضية الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وقضية المرأة، وقضية النظام العالمي. وقد عهدت إلى عدد من أهل الفكر بمعالجتها.

في معالجتي للموضوع أقف بداية أمام دلالات مصطلح “الإسلام” من حيث كونه ديناً وحضارة ودائرة حضارية. ثم أتناول عملية الحوار بالنظر والتحليل. واستحضر من ثم قضايا العصر. وأتعرف على الآخر في كل دوائره. وأصل إلى ما يعنيه “الحوار مع الآخر في الإسلام” نظرياً وعملياً في عالمنا المعاصر. * مفاهيم

(1) “الإسلام” ديناً هو الرسالة السماوية الخاتمة التي أرسل الله سبحانه محمداً بن عبد الله بها “شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بأمره وسراجاً منيراً”. وهذه الرسالة تمثل الحلقة الأخيرة في سلسلة الرسالات التي حملها رسل الله السابقون الذين كانوا مسلمين لله. والمؤمنون بهذه الرسالة الخاتمة ينسبون للإسلام فهم “المسلمون”. وكتابهم هو “القرآن” الذي نزل به الوحي الأمين على الرسول (ص). وهو يتضمن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله. ومن هذه الكتب التوراة والإنجيل المنزلين على موسى وعيسى عليهما السلام. وقد نظر المسلمون إلى اليهود والنصارى المسيحيين على أنهم “أهل كتاب”. واحترمت دولة الخلافة الإسلامية معتقداتهم، إذ لا إكراه في الدين” واعتبرتهم في “ذمتها” فهم “أهل ذمة” لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.

الإسلام حضارةً، هي تلك الحضارة التي أقامها المسلمون وغير المسلمون من شعوب الدولة الإسلامية على اختلاف مللهم وأقوامهم، وانتموا جميعاً إليها. وقد عرفت باسم “حضارة الإسلام” أو “الحضارة الإسلامية”، وتمثلت حضاراتٍ سبقتها. وهي اليوم في القرن الخامس عشر من قيامها/ واحدة من ثماني حضارات في عالمنا المعاصر.

والإسلام دائرة حضارية هو ديار المسلمين أو العالم الإسلامي أو بتحديد أدق جميع الأقطار التي تنتمي شعوبها لحضارة الإسلام من المسلمين والمسيحيين واليهود وملل أخرى. وهي تمتد في قارات العالم القديم آسيا وإفريقيا وأوروبا. وهناك من أبنائها من هاجر إلى العالم الجديد.

(2) “الحوار”: في تناولي “عملية الحوار بالنظر والتحليل” استحضر ما كتبته عنها في كتابي “حوار ومطارحات”. وفيه “لقد شاع استخدام كلمة “الحوار” في لغتنا هذه الأيام على مختلف الصُعُد. فالحديث يدور حول “حوار الحضارات” وحوار التيارات “الثقافية” المختلفة، و”حوار الشمال والجنوب”، و”الحوار العربي الأوروبي”، و”الحوار الإسلامية المسيحي”. فالحوار اليوم هو من”روح” العصر وإحدى ظواهره الهامة. وقد تميز عصرنا بثورة الاتصال التي إحدى ثمار ثورة العلم التي تفجرت فيه. ومع ثورة الاتصال هذه بأجهزتها السلكية واللاسلكية المسموعة والمرئية، وبوسائلها البرية والبحرية والجوية قَوِيَ “التواصل بين بني الإنسان، واتسعت دائرة الحوار وتنوعت موضوعاته بصورة لم تعرفها الإنسانية من قبل”. وشاهد على ذلك هذا العدد الضخم للمؤتمرات والندوات والاجتماعات التي تعقد كل يوم في عالمنا وتنوع الموضوعات التي تبحثها.

ننظر في كلمة “حوار” ونستعين بالمعجم في تحديد معناها، فنجد أنها من “الحَوْر” وهو “الرجوع عن الشيء وإلى الشيء”. و”حار حوْاراً” إلى الشيء “رجع عنه وإليه”. وما رجع إلى المرء حين يكلم آخر هو “حِوَار (بفتح الحاء وكسرها) ومحاورة وحَوير ومَحُورة” أي “جواب”. وأحار عن جوابه أي ردّه. ويقال “سمعت حَويرهَما وحِوارهما”. والمحاورة هي المجاوبة. والتحاور هو التجاوب. وهم يتحاورون أي يتراجعون في الكلام. والمحاورة هي مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة.

“الحوار” إذاً “عملية” تتم بين اثنين أو أكثر. وهي تتضمن حين تجري بين اثنين “طرحاً” من أحدهما يتمثله الآخر “ويجيب” عليه، فيحدث “تجاوب” يُولد عند كل منهما “مراجعة” لما طرحه من كلام ومنطق حكم هذا الكلام. وقد تثمر هذه المراجعة طرحاً ثانياً يتبعه تجاوب ومراجعة فتكون “مُرادّة في الكلام”. فهذه المرادة هي المحاورة والحوار عند الأصبهاني صاحب “المفردات في غريب القرآن”. وقد ورد في القرآن الكريم الفعل المضارع “يحاوره” مرتين في سورة أهل الكهف في قصة “الرجلين والجنتين” و”تحاوركما” في سورة المجادلة.

تتعدد أطراف “عملية” الحوار حين يجري بين أكثر من اثنين، فيتلقى “الطرح” أكثر من “جواب” وتتسع دائرة “التجاوب” و”المراجعة” و”المرادة” وتثمر طروحاً أخرى تصل بهذه الأطراف إلى أجوية أخرى. وقد تنتهي بهم إلى الاتفاق أو إلى اطمئنان كل منهم لما توصل إليه.

لعل أبرز ما يستوقفنا في دلالة لفظ “حوار” هو هذه “المراجعة” التي تحدث. “فالحوْر” هو “التردد” أما بالذات وأما بالفكر. وحار المرء في الغدير “تردد”، وحار في أمره أي “تحير”. ومن هنا يتميز “الحوار” بأنه يتضمن في طياته عملية تحدث، وتجري خلالها مراجعة. فالموقف المتخذ في هذه العملية ليس سكونياً قطعياً غير قابل للتغيير والتبديل، وإنما هو حركي قابل للتحول.

هنا يبرز الفرق بين “الحوار” و”الجدل” الذي هو “المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة”. وأصله من “الجدل” وهو “إحكام الفتل”، فكأن المتجادلين يفتل كل واحد منهما الآخر عن رأيه. وقيل أيضاً الأصل في الجدال الصراع. وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة وهي الأرض الصلبة. فالموقف الذي يتخذه المجادل قطعي. وهو يرمي في جداله تحويل الآخر عن رأيه دون أن يراجع نفسه على ضوء ما يتلقاه من رد وجواب. وقد تضمن أولى آيات سورة المجادلة الكلمتين لتبرز هذا الفرق بين موقفين “قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله، والله يسمع تحاوركما”.. فالمرأة هنا وهي الصحابية الجليلة خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها كانت “تجادل” رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما كان هو “يتحاور” معها.

بقي أن نقول في معرض تحديدنا لمعنى كلمة “حوار” أن الحوار هو “حديث” يتضمن “طرح” أفكار. والطرح لغة الإلقاء بعيداً. وطرح عليه مسألة يعني ألقاها. ومنها اشتقت “الأطروحة” وهي المسألة التي تطرح، و”المطارحة”. وعملية الحوار تشهد مطارحة أفكار. وهي تتضمن “محادثة”. لأن الحديث هو كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في اليقظة أو في المنام. ونشير أخيراً إلى ما تتميز به كلمة “حوار” من جرس موسيقي يوحي بوجود مراجعة وتفاعل ونتأمل عملية “الحوار” على الطبيعة كما تجري في المحافل، فنجد أنها تبدأ “عسيرة” ثم “تتيسّر” تدريجياً حتى تصل إلى مرحلة “التناغم” وتبلغ “الذروة” فتثمر “نتائج” محددة.

أمر آخر نجده في عملية “الحوار” ونحن نتأملها. ذلك هو ما يفجره “التفاعل” الذي تشهده في عقل كل مشارك فيها، فتتدفق الأفكار فيه تدفقاً، وتلمع البوارق، وتثور الخواطر، وكأن عقل الإنسان الفرد بحاجة إلى أن “يقدح” بعقل إنسان آخر كي تتقد الأفكار فيه.

لقد أبرز أبو حيان التوحيدي تلك الخاصية من خواص الحوار في كتابه “المقابسات”. فمعنى المقابسات كما يقول الدكتور إبراهيم الكيلاني الذي قدم للكتاب هو “أن يشترك اثنان أو أكثر في محاورة علمية أو فلسفية فيقبس أحدهما العلم والمعرفة من الآخر، ويعطيه ما عنده منهما”. والكلمة مشتقة ن “قبس”منه ناراً فأقبسه أي أعطاه منها. وفي المجاز أقبس منه علماً أي استفاد. وفي الحوار دوماً مقابسة تأتي من خلال المحادثة ومطارحة الأفكار. ومن خواصه أن يقدح زناد العقول فتشع أفكاراً.

نصل من خلال تأملنا في عملية “الحوار” إلى إدراك عظيم جدواها وفوائدها، وإلى استشعار مدى حاجة الإنسان إليه.

(3) قضايا العصر في عالمنا يحددها واقع قائم. ونحن نستحضرها في هذا المؤتمر في وقت يعيش فيه عالمنا فترة عصيبة، وهو يشهد أحداث حرب من نوع خاص تنذر بزلازل عالمية، فيكتم أنفاسه تحسباً من تداعياتها ومضاعفاتها. وتبدو الحاجة ملحة لأن يحل الحوار محل الصراع وصولاً إلى تعارف فتعاون تتغلب فيه الحكمة ويؤدي إلى معالجة المشكلات التي نجمت عن هذه القضايا من جذورها كي يستتب سلام قائم على العدل.

لقد أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية هذه الحرب يوم 7/10/2002 باسم “الحرب ضد الإرهاب” بعد أقل من شهر على حدث 11/9/2001 في نيويورك وواشنطن. واستهدفت مع بريطانيا وتحالف دولي أفغانستان، للقضاء على حكومة طالبان وتنظيم القاعدة. وعاش العالم أخبار فظائع ما جرى هناك. ولا تزال الأحداث الجارية في تلك الجبهة بين حين وحين تدل على أنها مستمرة كجبهة حرب.

كانت الإدارة الأمريكية قد أعطت الضوء الأخضر للحكومة الإسرائيلية لبدء حرب في فلسطين في أعقاب فشل مفاوضات كامب دافيد الثانية في صيف عام 2000 في فرض التنازل عن القدس على المفاوض الفلسطيني، فكان أن قام مجرم الحرب ارييل شارون بانتهاك حرمة المسجد الأقصى يوم 27/9/2000، وبدأت انتفاضة الأقصى في اليوم التالي. وقد استهدفت واشنطن من هذه الحرب القضاء على حركة التحرير المستمرة لشعب فلسطين العربي ضد الغزو الاستعماري الاستيطاني الصهيوني العنصري وإذلاله وأمته العربية ودائرته الحضارية الإسلامية باغتصاب القدس عنوة بمقدساتها المسيحية والإسلامية. وعهدت أمريكا للجيش الإسرائيلي بتولي الحرب في جبهة فلسطين، مجاهرة بتزويد الحكومة الإسرائيلية بالسلاح والدعم المادي والمعنوي. ولا تزال الأحداث الجارية في جبهة فلسطين، من جرائم صهيونية يومية ودخول الانتفاضة عامها الثالث تدل على مدى احتدام الحرب فيها.

وها هي الإدارة الأمريكية قد حشدت آلتها العسكرية لشن حرب على العراق وفرضت مع بريطانيا على الأمم المتحدة إصدار قرار مجلس الأمن 1441 الفريد من نوعه بين القرارات الدولية الذي ينظم عمل فريق تفتيش دولي على أسلحة الدمار الشامل في العراق بزعم امتلاك الحكومة هناك هذه الأسلحة. وتوضح دراسات تحليلية للتحرك الأمريكي هذا على أنه يستهدف إكمال سيطرة القطب الواحد الأمريكي على النفط في العالم وإحكام قبضته على المنطقة العربية ودائرة الحضارة الإسلامية، والحيلولة دون قيام أقطاب آخرين. وقد دللت المناقشات في مجلس الأمن حول ذلك القرار تململ دول كبيرة من التحرك الأمريكي ومحاولتها عرقلته. وتشير الأحداث الجارية على هذا الصعيد إلى أن خطر فتح جبهة أخرى في هذه الحرب ماثل، وكثيرون في عالمنا يحبسون أنفاسهم ويضعون أيديهم على قلوبهم تحسباً من أهوال متوقعة.

جاء تفجر هذه الحرب في مطلع القرن الحادي والعشرين الميلادي بعد أن عاش عالمنا في القرن العشرين فظائع حربين عالميتين والعديد من الحروب المحلية والإقليمية في زمن ما عرف بالحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي قائدتي المعسكرين الغربي والشرقي في إطار الحضارة الغربية. وهكذا عاش عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية واقعاً قائماً حافلاً بالقضايا والمشكلات والتحديات.

هذا الواقع القائم تناولَتْه بالدراسة والنظر بحوث ودراسات وتقارير كثيرة. وقد عرضْتُ خطوطه العريضة في بعض كتبي وبخاصة “عُمران لا طغيان” و”عن المستقبل”. واستحضر هنا في هذا المجال عصارات تعرّف به.

يجري الحديث فيه عن مشكلات فيه تتحدى الإنسان، ومنها مشكلات “حماية البيئة والاستخدام الرشيد للموارد الطبيعية لاسيما غير المتجددة منها وأزمة الطاقة والعمالة والتضخم والكفاح ضد الآفات الاجتماعية التي لا تزال تعاني منها غالبية الشعوب والقضاء على أوجه الظلم وعدم المساواة التي تنتشر داخل الأمم وتسود فيما بينها والدفاع عن حقوق الإنسان والكفاح ضد مخلفات الاستعمار وحماية السلام ونزع السلاح”، كما أوضح تقرير اللجنة الدولية لدراسة مشكلات الاتصال الذي صدر عن اليونسكو عام 1981.

كما يجري الحديث في هذا الواقع عن “أقلية من الناس في عالمنا تمتلك النصيب الأكبر من الثروات والدخل. وهناك مئات الملايين من البشر جوعى بينما أقوام آخرون منهمكون في الاستهلاك على نطاق ضخم. والدول المالكة لكثير من المواد الخام لا تشترك إلا هامشياً في الإنتاج الصناعي. وقد أصبح اعتماد الأغلبية على الأقلية أكثر وضوحاً ورسوخاً، وبانت الفجوة بين دول يقع معظمها في الشمال ودول يقع معظمها في الجنوب. وهذه الفجوة آخذة في الاتساع. وأوجه التفاوت آخذة في الزيادة حجماً وتطوراً وقد لاحظت الفقرة الأولى من إعلان الأمم المتحدة الخاصة بإقامة نظام دولي جديد الذي صدر في أيار ـ مايو 1974 “أن مكاسب التقدم التقني ليست مقسمة بالتساوي بين أعضاء المجتمع الدولي. وقد ثبت أنه من المستحيل تحقيق تنمية عادلة ومتوازنة للمجتمع الدولي في ظل النظام الاقتصادي الحالي. ذلك بأن الفجوة بين البلدان النامية وجود كبلدان مستقلة، وهو نظام يديم عدم المساواة”.. على صعيد استغلال موارد المحيطات بطريقة سيئة أو بصورة بالغة الكثافة من جانب قلة من الدول تنتهك الحق المتكافئ لجميع الدول الأخرى في التمتع بنصيبها مما هو هبة الطبيعة للبشرية جمعاء.. وعلى صعيد إنتاج الغذاء وتوزيعه.. وعلى صعيد انتشار التقنية والصناعات.. وعلى صعيد تأثير الإنسان على البيئة.. وعلى صعيد بنى التجارة وشروط التبادل التجاري.. وعلى صعيد استخدام المواد الخام.. وعلى صعيد لعمل والعمالة. وما يصدق على هذا النظام الاقتصادي الدولي يصدق على الاتصال الدولي، وعلى النظام الدولي السياسي، أي على النظام العالمي بجوانبه المختلفة.

واضح أن الواقع القائم في عالمنا محكوم بما يصطلح على تسميته بالنظام العالمي الذي يعود في أصوله إلى النظام الأوروبي، وهو نظام بدأ يتكون في أوروبا منذ القرن السادس عشر الميلادي ولم يلبث أن حكم العلاقات بين الدول الأوروبية في أوروبا ثم في خارجها في القارات الأخرى إبان عصر الاستعمار الأوروبي. وكان عالمنا قد عرف أنظمة أخرى في مناطق أخرى، من بينه النظام الذي عرفته الحضارة العربية الإسلامية في علاقتها مع الشعوب والدول الأخرى، وهو نظام قام على نظرية وكانت له طبيعته ومصادره، كما أوضح مجيد حذوري في تقديمه لكتاب السير للشيباني.

تتحدث الدراسات المستقبلية التي عالجت النظام العالمي القائم عن البدائل المطروح ضمن مشاهد مستقبلية وعن أنماط التفاعلات الدولية الجارية فيها، فتتصور ثلاثة أنظمة للتفاعلات تحدد شكل العلاقات الدولية مستقبلاً، وهي نظام التعاون والتنافس، ونظام التوتر والردع، ونظام العنف والحرب. وهي تقرر أن نظام التسلح ظل متقدماً على الحد من التسلح، وتحذر من سيادة قيم ثقافة حسية في الغرب بمعسكريه ومن محاولة الانغماسيين في المجتمعات الأخرى تبينها لأنها لن تكون نابعة عن علاقة أصيلة عضوية مع قوى الإنتاج التقنية الأمر الذي يؤدي إلى ردود فعل قوية لدى الجماهير ترفضها في شكل عقائد وتراها ملازمة للتبعية، كما تنبه إلى خطورة احتمال أن تسود علاقات الاعتماد غير المتكافئة أو علاقات التبعية على صعيد النظام الاقتصادي فتتلاشى الشخصية المعنوية للدول الأضعف، وفق ما عرضه عبد المنعم سعيد في كتابه “العرب ومستقبل النظام العالمي” لآراء كوهن ووايز ومايلز وكول وجيرشني وكوين وناي وغيرهم من دارسي المستقبل في الغرب.

إن النظر في واقع النظام العالمي القائم وأصوله ورؤى مستقبله يوصل إلى الشك في قدرته على أن يثمر تعاوناً دولياً لحل مشكلات عالمنا. ويوضح أن هناك مسببات توتر توجد في ظل هذا النظام هي الاستعمار والاستعلاء العنصري والاستغلال الطبقي والتعصب الديني والصراع العقيدي والإرهاب الرسمي وغير الرسمي، وأن وراء هذه المسببات أزمة قيم تفعل فعلها في هذا النظام يجري فيها إنكار الغير وعدم التسليم باختلافه والكيل بكيلين وتسلط فكرة القوة الغاشمة والمصلحة المتأثرة بدلاً من الحق والعدل وتحكم فكرة الصراع بدلاً من التعارف والتعاون واعتبار الطبيعة عدواً يصارعه الإنسان ويقهره. وينتهي هذا النظر في واقع النظام العالمي إلى ملاحظة أن الإحساس بالأخطار الناجمة عن أزمة القيم هذه أصبح قوياً في عالمنا بعد أن هددت الجميع وأنذرت بفتنة لا تصيبن الذين ظلموا خاصة، وأنها تدعو إلى مراجعة وقد بدأت هذه المراجعة فعلاً في عوالم عالمنا الثلاث، وهي تشهد تفاعلات في الأعماق وعلى السطح وتؤدي إلى تغييرات، وأن عالمنا يشهد صحوة الفكر الفلسفي الذي عاد إلى طرح التساؤلات الفلسفية الأولى كما يشهد ظاهرة إحياء روحية تفاعلت في تكوينها عوامل مختلفة سياسية واجتماعية وثقافية ويشهد أيضاً وعياً في الذات القومية ونزوعاً إلى الوحدة القائمة على التنوع.

النتيجة التي نتوصل إليها هي أن النجاح في معالجة هذه القضايا يقتضي العمل لإقامة نظام عالمي يعتمد القيم العلا المبادئ الأخلاقية لأن اختبار الإنسان عبر التاريخ يظهر أن أي نظام على أي صعيد يفقد معناه إذا لم يفعل ذلك، وأن السلام يتحقق حين يسود نظام قيمي أخلاقي. كما يقتضي التواؤم مع البيئة انطلاقاً من إدراك أن الإنسان جزء من نظام الكون، ووعي مختلف الأقوام والدول بحقيقة انتمائهم إلى الدائرة العالمية إلى جاني انتمائهم لدوائر الموطن والقوم والعقيدة والحضارة، والاعتراف بالتعددية القومية والحضارية والانطلاق منها إلى الوحدة القائمة على التنوع من خلال تحقيق التفاعل بين مختلف الثقافات.

تبيِّن هذه النتيجة بخاصة أهمية كل من العقيدة والانتماء القومي والحضاري في التعامل مع قضايا العصر. كما تبيِّن أن هناك دوراً ينتظر الحضارة العربية الإسلامية كي تقوم بالإسهام في صنع الاستجابة الصحيحة لتحديات العصر ومعالجة مشكلات عالمنا.

تبيِّن هذه النتيجة أخيراً أن عدم التصدي لمعالجة قضايا العصر واستمرار النظام العالمي الحالي سيعني سيادة علاقات التبعية على صعيد النظام الاقتصادي. الأمر الذي سيؤدي إلى أن يشهد عالمنا تفاعلات ضمن نظام التوتر والردع تتحول إلى تفاعلات ضمن نظام العنف والحرب، فيستحيل من ثم قيادة نظام التعاون والتنافس.

لا بديل إذاً أمام أمتنا والأمم الأخرى التي تعاني من النظام العالمي الحالي عن أن تحشد كل طاقاتها لإقامة النظام العالمي الجديد الذي يعتمد القيم العلا والمبادئ الأخلاقية مع المصلحة ويحقق تواؤم الإنسان مع نفسه ومجتمعه وبيئته.

(4) الآخر: يتحدد تبعاً للمتكلم مفرداً كان أو جمعاً (أنا ونحن) وجمعه “الآخرون”. وهو مرتبط بالذات والذوات. وقد شاع استخدامه للدلالة على “الغير”. ويفضّل طاهر لبيب محرر كتاب “صورة الآخر” استخدام مصطلح “الآخرية” بدلاً من “الغيرية”، والآخرين بدلاً من الأغيار. وهو يلاحظ أن الجهل بالآخر ومن ثم رفضه ظاهرة متفشية بين الثقافات. والحق أن المعرفة بالآخر غنى والجهل به فقر. وينبّه طاهر لبيب أيضاً إلى “أن العزلة الثقافية تؤدي إلى العنصرية، وأن صورة الآخر ليست هي الآخر”. ونضيف وهي تختلف تبعاً للمعرفة أو الجهل به. وقد أوضحت في كتابي “الحوار العربي الأوروبي” أن هناك في واقع الأمر أربع صور تتعلق بالأنا وبالآخر، هي صورته عني، وصورته عن نفسه، وصورتي عنه، وصورتي عن نفسي، وهي ليست متماثلة. وضربت أمثلة على ذلك في شرح مفصل.

والآخر موجود في كل دوائر انتماء “الأنا”. الانتماء الوطني لقطر له “جنسية”. والانتماء الديني وفي إطاره الانتماء المذهبي. والانتماء القومي وفي إطاره الانتماء الطائفي. والانتماء الحضاري. ويجتمع الأنا والآخر في دائرة الانتماء الإنساني لأمِّنا الأرض وللبشرية جمعاء. وقد عبر عن الإدراكِ بهذه الحقيقة الشاعر العربي بقوله “إذا كان أصلي من ترابٍ فكلُهَا بلادي وكل الناسِ فيها أقاربي”

نركز النظر على الانتماء الحضاري، فنجد أن “الآخر” بالنسبة للمنتمي للحضارة الإسلامية هو المنتمي لواحدة من الحضارات الأخرى في عالمنا. وقد أوضحت في كتابي “عرب ومسلمون وعولمة” بعد أن استعرضتُ عدداً من الآراء بشأن هذه الحضارات “أن الرأي الذي نطمئن إليه بعد إعمال فكر وإمعان نظر، هو أن هناك اليوم ثمان دوائر حضارية يمكن التمييز بينها تكشفها النظرة المحيطة، وتسود في كل منها حضارة غالبة لها خصائصها. فهناك الغربية بفرعيها الأوروبية والأمريكي الشمالي، والحضارة الأمريكية الجنوبية التي جاءت ثمرة تفاعل حضارة المستعمرين المستوطنين الغربية القادمين من شبه جزيرة أيبريا مع حضارة سكان البلاد الأصليين مع الحضارة الإفريقية المتأثرة بالحضارة الإسلامية. ونحن مع الرأي الذي يميزها عن الحضارة الغربية. وهناك الحضارة الصينية والكونفوشوسية، والحضارة اليابانية في أقصى الشرق في آسيا، والحضارة الهندوكية في الهند، وهناك الحضارة الأرثوذكسية السلافية في روسيا وأوروبا الشرقية الجنوبية. وهناك الحضارة الإفريقية السائدة في جنوب الصحراء في قارة إفريقيا، والحضارة الإسلامية بفروعها في آسيا وإفريقيا.

فإذا ما ركزنا النظر على الانتماء للدولة الوطنية القطرية بحدودها القائمة، نجد أن الآخر هو المقيم فيها أو الزائر لها الذي يحمل جنسية أخرى، فهو “غير مواطن”.

و”الآخر” بالنسبة للانتماء الديني هو من يعتنق ديناً آخر. فهو عند المسلمين واحد من غير المسلمين الذين لديهم ديانات أخرى. وهو أيضاً بالنظرة المذهبية في الدين الواحد ينتمي لمذهب آخر.

نسوق مثلاً على هذا التعدد لمفهوم الآخر تبعاً لدائرة الانتماء، ما طرحه يوسف القرضاوي في كتابه “أوليات الحركة الإسلامية” الصادر عام 1990م. فهو يتحدث عن “الحركة الإسلامية والأقليات العرقية والدينية وعنها والحوار مع الآخرين” الذين صنفهم إلى علمانيين، وعقلاء الحكماء، والعقلاء في الغرب، والحوار الديني (الإسلامي المسيحي)، والحوار الفكري (مع المستشرقين) والحوار السياسي مع الغرب. * الأساس النظري للحوار مع الآخر في الإسلام

توفر العقيدة الإسلامية أساساً قوياً للحوار مع الأديان بعامة، وبين بني الإنسان في مختلف الموضوعات، يكون الانطلاق منه إلى مباشرة الحوار. فالإسلام يعتبر أن “مبدأ الاختلاف بين الناس هو أحد سنن الله في الكون، وهو واقع بمشيئة الله سبحانه”. ويرتبط بهذا المبدأ “مبدأ الحق في الاختيار” فلا إكراه في الدين. والإسلام يقرر أن الله خلق الناس من ذكر وأنثى وجعلهم شعوباً وقبائل “ليتعارفوا” ودعاهم إلى التعاون على البر والتقوى. وقد باشر نبي الإسلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم حواراً مع أتباع الديانتين النصرانية واليهودية. وجاءت “الصحيفة” متضمنة أساس التعايش والتعاون، ومشجعة على استمرار الحوار. ومنذ ذلك الحين والحوار متصل بين اتباع الديانات في دائرة الحضارة العربية الإسلامية ينشط أحياناً ويفتر أحياناً.

هذا الأساس العقيدي للحوار هو خير موجه للتفكير فيما ينبغي أن يكون عليه هذا الحوار في بعده الفكري الذي يحدده العقل الإنساني على هدى من الوحي. ونسوق مثلاً التوجه الإسلامي للحوار الإسلامي المسيحي.

برزت فكرة الحوار الإسلامي المسيحي في عالمنا المعاصر مع بداية “عصرنا” إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية. وقد تفاعلت في هذا “العصر” ثورة “التقنية” على صعيد العلم “وثورة التحرير” على صعيد السياسة، وما أسرع ما نشبت في دائرة الحضارة الغربية “حرب باردة” بين دول غربية تدين بالرأسمالية و”الليبرالية” ودول أوروبية شرقية تدين بالماركسية، اصطلح على تسميتها “الغرب والشرق”. فكان أن اتجه الفكر السياسي في الغرب الرأسمالي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية إلى طرح فكرة مباشرة “حوار إسلامي مسيحي” للبحث في مشكلات عالمية تواجه المسيحيين والمسلمين معاً ودول الغرب ودول العالم الإسلامي التي استقلت، وللوقوف في وجه انتشار “المَدِّ الماركسي الشيوعي” الذي تحاول ماديته “هدم الاعتقاد في القيم الروحية”- على حد تعبير “بايارد دودج” مدير الجامعة الأمريكية في بيروت سابقاً في تقديمه لأعمال “مؤتمر الثقافة الإسلامية في علاقتها بالعالم المعاصر” أوائل الخمسينات الذي انعقد في جامعة برنستون وتضمن في طياته “حواراً إسلامياً مسيحياً”. * أهداف الحوار مع الآخر من منظور إسلامي

الأهداف العامة للحوار مع الآخر هي الوصول إلى “كلمة سواء” في مواجهة “الطغيان”، وعمل الصالحات، (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنَّا مسلمون) (آل عمران 64).

أحد الأهداف التي لها أولوية هدف “التعارف” الذي يتحقق من خلاله معرفة الآخر على حقيقته وتصحيح الصورة الذهنية عنه الحافلة بركام من الأحكام المسبقة وسوء الفهم ويمكن أن نجمع في مقاربة هذا الهدف بين أسلوب غير مباشر من خلال اللقاء على بحث موضوعات تهم طرفي الحوار، وأسلوب مباشر بالحديث عن الأحكام المسبقة وسوء الفهم.

هدف آخر هو “التعاون على البر والتقوى” من خلال النظر في أمور حيوية لطرفي الحوار، بروحية استباق الخيرات بين مؤمنين لكل منهما وجهته. “الحق من ربك فلا تكونن من الممترين. ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأتي بكم الله جميعاً. إن الله على كل شيء قدير”. (البقرة 148).

يجب أن ينأى هذا الحوار، وبخاصة الحوار بين الأديان، عن استهداف التوحيد العقائدي. وهذا يعني ألا ينشغل الحوار بمبدأ الاختلاف ومبدأ حرية الاختيار “لكم دينكم ولي دين”. وأمر المحاسبة على الاعتقاد والأعمال على السواء هو لله سبحانه.

(إن الذين أمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد) (الحج 1).

هدف رئيسي لهذا الحوار أن يجهر “بالحق” في المسائل والأمور التي تهم الناس. وأن يُذكّر بالمبادئ والقيم العلا التي يجب الالتزام بها منهم، ومن السلطان، ولكل من بيدهم مقاليد الأمور. وهذا يتطلب من طرفي الحوار استحضار حقيقة أن الدين يوجه السياسة وليس العكس، والدعوة من ثم إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ومطالبة “القارونيين” في عالمنا بما طالب به المؤمنين قاروناً، (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا واحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين). القصص 77). كما يتطلب منهم التذكير بأن (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين) (القصص 83). * موضوعات الحوار

الموضوعات ذات الاهتمام المشترك بين طرفي الحوار الإسلامي والمسيحي كثيرة. ومن المستحسن تصنيفها:

فمنها ما يتعلق بالموقف العقيدي المبدئي من قضايا بعينها، في مقدمتها قضية مقاومة العنصرية والتمييز العنصري، وقضية العدل الاجتماعي، وقضية الحرية والمسؤولية، وقضية السلام القائم على العدل.

ومنها ما يتعلق بالإنسان وأمه الأرض ومحيطنا الحيوي وبيئته.

ومنها ما يتعلق بالإنسان في مجتمعه وقضية الأسرة والزواج والعفة، وموقع المرأة في الأسرة والمجتمع والتكامل بينها وبين الرجل على أسا من المساواة الكامل في إنسانيتها، وقضية التكافل الاجتماعي بمختلف صوره، وقضية التعددية في المجتمع.

ومنها ما يتعلق بالإنسان والسلطان، والشورى والديمقراطية، والمشاركة السياسية.

ومنها ما يتعلق بأخلاق العمل، وبخاصة في المجالات الجديدة التي فتحتها ثورة التقنية.

ومنا ما يتعلق بقراءة التاريخ المشترك بنظرة “التاريخ الحافز” وليس بنظرة “التاريخ العبء” وإبراز الصورة الإيجابية للتعايش والتعاون. وكذلك ما يتعلق بتشوف المستقبل المشترك. * صيغ الحوار والمعنيون به

الحاجة ماسة إلى استحضار الخريطة التفصيلية لكل من طرفي الحوار، بما فيها من مذاهب وطائف وشيع ومؤسسات؛ واستذكار الصيغ التي اعتمدت في المرحلة السابقة، للوصول إلى اطمئنان لصيغ مناسبة، وتحقيق التنسيق اللازم في أوساط كل طرف لإجراء الحوار الإسلامي المسيحي وإنجاحه. ولا بد أن تستكمل هذه الخريطة بخريطة لحوار الأديان في عالمنا. وسيكون من السهل في ضوء ذلك تحديد المعنيين بالحوار.

لقد تكررت ممارسات الحوار مع الآخر في دائرة الحضارة الإسلامية خلال العقود الستة الماضية وتبلورت من خلالها أفكار تتصل جميعها بالإجابة عن سؤال “كيف يمكن الوصول إلى فهم موضوعي بين الآخرين والمسلمين؟” وأحد أمثلة ذلك مؤتمر “عن الإسلام وأوروبا” انعقد في 6/1996 الذي أشارت ورقة عمله إلى “تصويب للأخطاء في الفهم المتبادل، واعتماد مبدأ التسامح والاحترام والقبول المشترك بين الجانبين. وتقويم دور وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية في تشكيل الرأي العام مع دراسة مصادر معلومات كل جانب عن الجانب الآخر، والعمل على إبراز الهام للمناهج التعليمية في الوصول إلى إبراز الصورة الحقيقية للجانب لآخر. والبحث في أفضل السبل التي يمكن أن يعتمدها كل جانب لتقدير الإسهامات الحضارية لكل طرفٍ في بناء الحضارة العالمية”. * أفكار

الفكرة الأولى هي أن البحث في هذا الموضوع لا يبدأ من فراغ ولا ننطلق فيه من نقطة الصفر. فما هذا المؤتمر إلا حلقة في سلسلة مؤتمرات وندوات ولقاءات تناولت الموضوع. وجميعها يقع في إطار ظاهرة “الحوار”. حوار بين أديان وعقائد وأقاليم ودول وجماعات.

لقد برز من بين هذه “الحوارات” “الحوار الإسلامي المسيحي” الذي أسهمت فيه مؤسسات كثيرة أوروبية وعربية وإسلامية من بينها مؤسسة آل البيت “المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية” في الأردن التي قام رئيسها بعمل حصر للقاءات الحوار ودراسة ما صدر عنها حين باشرت نشاطاً على هذا الصعيد مع “الفاتيكان” والمركز الأرثوذكسي بسويسرا وحوار أديان في بريطانيا. وقد لفت النظر قيام مؤسسة اليونسكو مؤخراً بالاهتمام بالحوار الديني ودعوتها لمؤتمر “الدين من أجل ثقافة سلام” الذي انعقد ببرشلونة عامي 1994 و1995 وأصدر تصريحاً بهذا الشأن.

كما برز “الحوار العربي الأوروبي” بين الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية الذي بدأ على الصعيد الرسمي عام 1975، واختصت إحدى لجانه العاملة بموضوع “الثقافة والعمل والأوضاع الاجتماعية”. وقد أولت هذه اللجنة عناية خاصة لبحث كيفية الوصول إلى فهم موضوعي بين الحضارتين الغربية والعربية الإسلامية، ولأوضاع العمال المهاجرين في أوروبا، ولتعارف شباب المنطقتين، وتوصلت إلى أمور محددة بشأنها شرحها كاتب هذه السطور في كتابة “الحوار العربي الأوروبي”.

مَثَل أخير ثالث للحوار الذي دار في مؤتمر “الإسلام في أوروبا” الذي تناول تحديداً “العلاقة بين الثقافات الأوربية والإسلامية، ووضع المسلمين في أوروبا”، وانعقد باستكهولم في منتصف شهر حزيران ـ يونيو عام 1995. ويكشف التقرير الموجز عن أعماله عن مدى غنى ما تم طرحه فيه، وهو يشير إلى كتاب وافٍ يتضمن أعماله صدر آخر عام 1995. وقد قامت مؤسسة الحوار الدولي بالهيج في هولندا”. “I.D.F” بعقد عدة حوارات من هذا النوع تناولت أوضاع المهاجرين المسلمين وموضوع المرأة في الحضارتين، وأصدرت كتباً ونشرات عن الأعمال التي جرت فيها.

ما نرمي إليه من عرض هذه الفكرة هو أن نؤكد الدعوة إلى ضرورة الإفادة من نتائج أعمال هذه الحوارات، من خلال القيام بحصر لها، واستخلاص ما توصلت إليه من أفكار، والنظر فيما تم تطبيقه من هذه الأفكار، والبحث في تحديد آلية للتنفيذ، ودراسة إمكانية التنسيق بين المؤسسات العاملة في هذه المجالات، وإيجاد هيئة للتنسيق والمتابعة.

الفكرة الثانية هي أن المناخ السائد المحيط ببحث هذا الموضوع يتصف بالتقلب ويغلب ليه تعكر الأجواء بفعل “إعلام الأزمات” الذي يثير المخاوف ويغذي التعصب ولا يقدم المعلومة بأمانة، وبفعل “مناهج تعليمية” واقعة في أسر “التاريخ العبء” متجاهلة “التاريخ الحافز”، وبفعل سياسات قصير النظر إزاء موضوع الهجرة والتعامل مع المهاجرين تنجم عنها تداعيات سلبية. وتأتي أحداث معينة تصيب العالم الإسلامي تصدر بشأنها مواقف أوروبية رسمية تسهم في كثير من الأحيان في مزيد من تعكير الأجواء، والمثل الأوضح على ذلك تلك الأحداث المتعلقة بالصراع العربي الصهيوني ومن آخرها العدوان الإسرائيلي على لبنان والحصار الإسرائيلي المستمر لمناطق الحكم الذاتي في الضفة والقطاع. وفظائع الإرهاب الصهيوني هناك وجرائمه في جنين ونابلس والخليل وبيت لحم وغزة.

لقد نجحت الحوارات التي جرت بين “خاصةٍ” في المنطقتين في التخفيف من تعكر الأجواء، وأسهمت ولو بالقليل في تحسين المناخ في أوساط هذه “الخاصة”، وأشاعت بما ينشر عنها من أخبار أملاً في تصفية الأجواء في أوساط “العامة”، وحققت ـ وهذا أمر بالغ الأهميةـ تعارفاً بين شخوص فاعلة في المنطقتين أوصل إلى الفهم الموضوعي لديهم، وبلورت ـ وهذا أيضا بالغ الأهمية ـ فاعلة في المنطقتين أوصل إلى الفهم الموضوعي لديهم، وبلورت ـ وهذا أيضا بالغ الأهمية ـ فكرة أن تعاون الحضارات عامة والحضارتين الغربية والعربية الإسلامية بخاصة هو عبرة تاريخ طويل وضرورة مستقبل.

يبقى إذاً أن تنجح هذه “الخاصة” في أن تكون “طليعة” لتعاون منظم بينها تستهدف تحقيق تعاون أوسع واحترام متبادل والإسهام في صياغة سياسات أفضل. وهذا يقتضي أن يستمر التواصل بين أفرادها والتشاور، وأن يتم التوافق على السبل والصيغ المناسبة لتحقيق ذلك. وهو ما نرمي إليه من عرض هذه الفكرة.

الفكرة الثالثة وهي أن النجاح في تحقيق هدف الحوار يقتضي من العاملين له إدراكاً لطبيعة كل من لطرفين من خلال استحضار حقائق تتعلق بهما معاً وبكل منهما منفرداً.

الفكرة الرابعة هي أن النجاح في بلوغ أهداف الحوار يقتضي الالتفات إلى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وإيلاء عناية خاصة لتفهم هذه الأوضاع ومعالجتها.

* وبعد..

فإن الحرب التي نعيشها بأحداثها العسكرية وأحداثها السياسية، وما يقترن بها من استهداف قوى الهيمنة الأمريكية والصهيونية العنصرية للإسلام ديناً وحضارة وللمسلمين عامة بحملة شعواء عنوانها الإرهاب الإسلامي يمثل تحدياً ويوجد مناخاً ثقيلاً يحاصر الحوار، ويسبب ردود أفعال حادة تنادي بالصراع والقطيعة، ولكن جوهر الإسلام ديناً وطبيعة الحضارة الإسلامية تحث على استجابة صحيحة لهذا التحدي بالتمسك بالحوار والدعوة إلى سبيل الله إعلاءً لكلمة الحق بالحكمة والموعظة الحسنة ومواجهة عدوان المعتدين بالمقاومة. وواضح أن هذه المقاومة للعدوان وللعولمة المتوحشة في دائرتنا الحضارية وفي جبهة فلسطين بخاصة، جعلت كثيرين في عالمنا مهيئين للتعارف والفهم، ومن ثم للتعاون على البر والتقوى.

إن الإسهام في صنع هذه الاستجابة الصحيحة مسؤولية فردية وجماعية لكل أبناء حضارتنا. وعليهم النهوض. بها في مختلف دوائر انتمائهم تعزيزاً للوحدة الوطنية في الدائرة القطرية الوطنية وتحقيقاً للتعاون في الدائرة الحضارية ونهوضاً بالحوار مع الدوائر الحضارية الأخرى أساساً لتفاعل إيجابي يوصل إلى إقامة نظام عالمي قويم واستتباب سلام قائم على العدل.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

You may use these HTML tags and attributes: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>