بقلم المرحوم أ. د. أحمد صدقي الدجاني
أوّل ما يلفت نظرنا في هذا الواقع الثقافي، هو تعدد الثقافات فيه وتنوعها وإدراك إنسان العصر، أينما كان، وفي أي دائرة حضارية يعيش، لهذه الحقيقة، وذلك بفعل ثورة الاتصال التي عرفته بالصورة والصوت من خلال التلفزة ووجهاً لوجه من خلال السياحة، بهذا التعدد والتنوع، بدرجة لم يعرفها إنسان العصور السابقة.
حقيقة ثانية تلفت نظرنا في هذا الواقع، هي أنه يشهد تغيرات ومحاولات تغيير وتطورات ومحاولات تطوير في كل دوائر العالم الحضارية، وهذه التغيرات والتطورات وثيقة الصلة بالسياسة، والاقتصاد، والاجتماع، وتبادل التأثير معها.
حقيقية ثالثة، هي أن الوعي بالعامل الثقافي في الاجتماع الإنساني، هو اليوم قوي يدعو إلى أخذه في الاعتبار عند معالجة مختلف قضايا عالمنا ومشكلاته، وهذا عند ألين تورين(AlainTouraine) – عالم الاجتماع في مقاله “التحولات الاجتماعية في القرن العشرين” بالمجلة الدولية للعلوم الاجتماعية (يونيو 1998م) – هو الاختلاف الجوهري بين نهاية القرن التاسع عشر، شديد الانشغال بالعامل الاقتصادي والعامل العقيدي (الأيديولوجي)، وقد فشلت محاولات القفز فوق هذا العامل الثقافي التي قام بها بعض مخططي السياسة الخارجية الأمريكيين في الثمانينيات، كما أوضح ميشيل فلابوس (Michel Flapos) في بحثه “الثقافة والسياسة الخارجية” الذي نشره في مجلة السياسة الخارجية (Foreign Policy) في ربيع 1991 م، وقرر فيه أن الحقيقة الكبرى بالنسبة للقبائل العالمية، هي منطقتها الثقافية وليس القرية العالمية، ملاحظاً أن العالم الكبير نفسه هو سلسلة من المناطق الثقافية يخفق كل منها بنبض مئات الملايين، وانتهى فلابوس في بحثه إلى أن الإحساس بالنفس عند الشعوب يتشكل على مستوى المنطقة الثقافية، وليس على مستوى القومية أو الأممية.
وهذا الوعي بأثر العامل الثقافي ينطلق، كما أوضح كاتب هذه الدراسة في كتابه “عمران لا طغيان” من حقيقة الانتماء لدائرة عمران حضاري فهذا الانتماء الذي يتمثل مشاعر القوم ويستند إلى رؤى العقيدة، يورث الإحساس بالنفس ووعي الذات والشعور بالهوية.
حقيقة رابعة، هي أن هناك تفاعلاً جارياً بين الثقافات على صعيد المجتمع داخل الدولة الواحدة، وعلى صعيد المجتمعات بين الدول وهذا التفاعل الثقافي يقع في إطار التفاعل الحضاري بين الحضارات التي تضم كل واحدة منها عدداً من الثقافات، ويشهد هذا التفاعل صوراً من الحوار الإيجابي الذي يثمر تعاوناً، كما يشهد أحياناً صراعاً، ولقد شهد عالمنا خلال العقد الاخير من السنين، محاولة لجعل صراع الحضارات هو الأصل، وقام بالترويج لهذه الفكرة مراكز بحث أمريكية، وظهرت ردود أفعال واستجابات قوية لهذه المحاولة في مختلف الدوائر الحضارية، شهدت التأكيد على أن هدف التعاون بين الحضارات لمعالجة قضايا عالمنا ومشكلاته هو الأصل، ومن بين أمثلة كثيرة على هذه الاستجابات: المؤتمر الدولي الذي دعت إليه منظمة تضامن الشعوب الإفريقية الآسيوية والذي انعقد في القاهرة بين 10 و12 مارس 1997 م، بمشاركة مفكرين وسياسيين من مختلف أنحاء العالم، ناقشوا تساؤلاً مطروحاً هو “صراع الحضارات أم حوار الثقافات؟” وظهرت أعماله في كتاب قيم.
حقيقة خامسة، هي أن مختلف الحضارات الموجودة في عالمنا اليوم، تتبادل التأثر والتأثير فيما بينها بدرجات متفاوتة، وتقف واحدة منها هي الحضارة الغربية بثقافاتها، في أعلى سلم التأثير، وتحتل مكانة خاصة لما حققته في القرون الخمسة الأخيرة على صعيد العلم، وبفعل ما حدث من خروج أوروبي إلى القارات الأخرى وقيام دول أوروبية بالاستعمار بمختلف أشكاله في أوطان شعوب أخرى وتبرز اليوم في الدائرة الحضارية الغربية، محاولات قوى الهيمنة في الولايات المتحدة الأمريكية، للتحكم في النظام العالمي والانفراد بقيادته رافعة شعار “النظام العالمي الجديد”، والسيطرة على الأسواق العالمية من خلال فرض “عولمة ” خططت لها الشركات الكبرى عابرة القارات، وقد أصبحت هذه العولمة ظاهرة لها أبعاد أخرى سياسية وفكرية وثقافية، وصار لها ثقافة تعرف بها هي “ثقافة العولمة” تحاول فرض أنماط تفكير وأساليب حياة “المجتمع الأمريكي” على المجتمعات الأخرى.
حقيقة سادسة، هي أنّ البُعد الروحي في مختلف الثقافات، يبدو جلياً، من خلال قوة تأثير القيم الروحية وهناك اليوم في الدوائر الحضارية، ظاهرة “إحياء روحي” يستلهم “المقدس” وهكذا يبرز دور الدين في الثقافة، وقد تناول كاتب هذا الحديث هذه الظاهرة في كتابه “تجديد استجابة لتحديات العصر” الذي خصص الباب الثالث فيه للفكر الديني، وكان مما أشار إليه قيام اليونسكو بتنظيم سلسلة ندوات عن “إسهام الاديان في ثقافة السلام”.
– دائرتان حضاريتان:
تشهد أوساط المسيحيين والمسلمين صوراً من هذا الإحياء الديني نراها في الدائرتين الحضارتين اللتين يعيش معظمهم فيهما، وهما دائرة الحضارة الغربية، ودائرة الحضارة الإسلامية، فأما الأولى، فقد كانت المسيحية أحد مكوناتها، ويعيش فيها مسيحيون كثيرون من الكاثوليك والارثوذكس والبروتستانت، وضمت منذ القديم عدداً من المسلمين تزايدت أعدادهم في نصف القرن الأخير، ويلاحظ إنجمار كارلسون (Ingmar Carlson) مدير التخطيط السياسي في وزارة الخارجية السويدية، في معرض رده على مقولة صموئيل هنتغتون حول صراع الحضارات: “انّ الثقافة الإسلامية ليست غريبة عن الغرب، حيث استمر الوجود الإسلامي في أوروبا طويلاً، وأدى إلى تكامل فريد بين الرسالات الثلاث، وإلى ازدهار لم يسبق له مثيل للعلم والفلسفة، واليوم يوجد في أوروبا حسب تقديره، أكثر من عشرة ملايين مسلم قد يصل عددهم في حدود عام 2020م إلى ما بين 25 و60 مليوناً، بحيث لم يعد في الإمكان تصور الاتحاد الاوروبي دون مكون إسلامي له” وقد استوقف هذا القول ماهر الشريف في بحثه “أطروحتا نهاية التاريخ وصدام الحضارات” الذي قدّمه إلى مؤتمر “صراع الحضارات أم حوار الثقافات”.
وأمّا الدائرة الأخرى، فقد استلهمت رسالة الإسلام، وهي تضم مسلمين كثيرين من مختلف المذاهب، وقد شارك في ازدهارها مسيحيون يعيشون فيها ويهود أيضاً وأتباع ملل أخرى، وهؤلاء جميعاً ينتمون إليها، الأمر الذي جعل للإسلام في مصطلح الحضارة الإسلامية، مدلولاً حضارياً، فضلاً عن مدلول سلسلة الرسالات التي جاء بها الأنبياء (إنّ الدين عند الله الإسلام) (آل عمران/ 19)، ومدلول الرسالة الخاتمة التي نزل بها الوحي على محمد بن عبد الله (ص).
– الواقع الثقافي في الحضارتين الغربية والإسلامية:
حين يكون الحديث عن دور مشترك للمسيحين والمسلمين يقومون به لمعالجة قضايا عالمنا، فإن من الضروري، بعد أن تعرفنا على حقائق الواقع الثقافي في عالمنا، أن نركز النظر على هذا الواقع الثقافي في هاتين الدائرتين الحضارتين، بغية الوقوف على المناخ المحيط به، ذلك لأن لهذا المناخ تأثيره على أداء الدور.
لقد صدرت دراسات كثيرة حول الواقع الثقافي في الغرب، فصلت الحديث عن مرحلة “ما بعد الحداثة” وهناك انطباع قوي لدى المختصين، بأن إحساساً بعدم اليقين يشيع في الأوساط الفكرية والثقافية، فعدد المثقفين والمفكرين الذين يتخوفون من شبح الخواء الفكري وتراجع الروح النقدية في الفكر الغربي – على اختلاف منطلقاتهم ومرجعياتهم – في تزايد وهؤلاء يعارضون الرأي القائل بـ”نهاية التاريخ” وان النموذج الاقتصادي والسياسي لليبرالية الغربية، وهو سقف التطلع الإنساني، كما أوضح ماهر الشريف في بحثه الذي سبقت الإشارة إليه، ولقد سبق لكاتب هذه الدراسة أن نظر في كيفية رؤية الأوروبيين أنفسهم في هذه المرحلة، معتمداً على أعمال ندوة هامبورغ حول العلاقة بين الحضارتين الغربية والعربية، ولاحظ فيه “أن كثيرين من الغربيين غير راضين عن الحالة الحاضرة التي عليها الحضارة في أوربا الغربية، وهم يعانون من مرورهم بفترة عصيبة تتصف بفقدان الحيوية الاقتصادية، ويحنقون على خضوع أوربا السياسي والعسكري للولايات المتحدة، ويشعرون بالغيظ لعجزهم عن مجاراة حيوية اليابان في الميدان الاقتصادي، وقد أصبح اقتناعهم بما كانوا يعتبرونه رسالتهم ضعيفاً وتعمق الشك لديهم فيما اعتبروه حقاً لهم من قبل” ويتداخل هذا الشك مع النقاش حول قيمة التقدُّم التقني، ويقول هؤلاء إن واقع الأمر في أوروبا الغربية يعطي انطباعاً بأن الأوروبيين يبتعدون عن ذواتهم، ويبدو هذا حتى في الفن الذي ينتجونه إذ يتضاءل فيه الطابع الأوروبي، وهم يلاحظون أن الخروج الأوروبي في عصر الاستعمار لغزو أوطان الآخرين لا يمكن تفسيره من منظور اقتصادي أو سلطوي فقط، وإنما في المقام الأول من منظور الوعي العميق بنشر “رسالة صاغتها عقيدة دينية وفلسفة دنيوية”، استمدوا منها مشروعية “تصرفاتهم الفاتكة والوحشية” مع الآخرين، كما أوضح إدوارد مورتيمر وجونتر ديهل في بحثيهما لندوة هامبورغ، ومجمل القول إن لسان حال هؤلاء الأوربيين الغربيين يقول: “نحن ننظر إلى وضعنا الحضاري الراهن بكثير من الريبة والشك” وتأتي تصريحات أسقف كانتربري وقت كتابة هذه الدراسة في أغسطس 1999م، حول عدد من القضايا العصرية لتقدم مثالاً على ذلك.
إنّ الواقع الثقافي في الغرب اليوم يدعو إلى التفكر في ظواهر لافتة أوجزها ألين تورين في بحثه “التحولات الاجتماعية في القرن العشرين” بالمجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، يونيو 1998 م، في ثلاث، هي: أن المؤسسات من كل الأنماط تتصدع، وانتصار ما يمكن تسميته “الفردانية” أو “النزعة الفردية” وقيام عالم بلا مؤسسات ذي نظرة تجمع بين العالمية والفردية في تزامن وتماكن، وقد أوضح تورين ان جميع هذه الخطوط ذات صلة بالتغيرات الثقافية وليس بالتغيرات الاجتماعية، وأن المشكلات اليوم هي تحطيم الروابط المؤسساتية والاجتماعية والثقافية وتحرير الفردية والمتعة والسعادة، مع انبثاق صراعات على المستويين العالمي والقومي.
في ظل هذا المناخ الثقافي تبرز “المغالاة” في أشكال كثيرة على مختلف الصعد ونحن نرى اليوم أمثلة على هذه المغالاة في الحياة الاجتماعية على صعيد الأسرة والتعامل مع الأجيال، أطفالاً وشباباً وشيوخاً، والأمر نفسه في الحياة الثقافية في عصر العولمة، ومع المغالاة يكون “التطرُّف”، ومن مظاهره “عنف” يطبع التصرفات، وتشتد الحاجة إلى سكينة النفس والعودة إلى التوازن والشواهد على ذلك كثيرة في مختلف الأقطار، وفي الولايات المتحدة الأمريكية بخاصة، حيث تفعل الثقافة السينمائية والتلفزية في انتشار العنف والشهرة.
يستدعي هذا الواقع الثقافي إلى الخاطر ما شهده القرن العشرون من أحداث تفاعلت في تكوينها أحوال مادية مع أفكار، وعانى العالم ودائرة الحضارة الغربية بخاصة، من حربين عالميتين، ثم من سلسلة حروب إقليمية، وحدثت ثورتا التقنية والتحرير، وظهرت آثار عصر الحداثة التي عزاها فرانسوا ليوتار(Francois Leotard) إلى التقدم في العلوم، وهكذا نجد هذا الواقع الثقافي في الغرب يشهد حوارات ساخنة حول مشكلات عالمنا والتحديات التي تواجهنا، يكون لها صداها في دوائر الحضارات الأخرى التي تشهد هي الأخرى هذه الحوارات.
حين نتأمل الواقع الثقافي في دائرة الحضارة الإسلامية، يلفت نظرنا وجود “حيوية” فيه، ومحاولات فكرية لمعالجة المشكلات، وحالة إحياء روحي، ونلاحظ أن المناخ السائد متقلب أحياناً، وأن الحيوية المفعمة بالحماسة والأمل والتوق إلى الإنجاز والعمل، تقترن بمشاعر إحباط ولايزال التدافع قوياً بين تياري الانكماش والانغماس، يحتدم فيه الصراع أحياناً في نطاق التفاعل مع الحضارة الغربية.
كما لايزال تيار الاستجابة الفاعل يحاول بلورة رؤيته لإسهام حضارته في العمران العالمي، وذلك بعد أن فشلت محاولات “التحديث” التي شارك فيها الانغماسيون قوى الهيمنة الاستعمارية التي تسلطت على ديار الإسلام. وتؤكد ظاهرة الإحياء في هذه الدائرة، على ضرورة اقتران العقل بالضمير في الإنسان، ومن ثم على الأخلاق، ويرتفع فيها نداء العمل لمعالجة المشكلات العالمية برؤية مؤمنة، ويبرز فيها العامل الثقافي الحضاري الذي “يصاحب دوماً أوقات التوتر والتغير والتحول، باعتباره يدعو إلى استمرار النضال في مواجهة عمليات الاقتحام”، كما يلاحظ أنور عبد الملك في بحثه “الوجه الحضارية في صنع العالم الجديد”.
– مشكلات لها بُعدها الثقافي:
واضح أن الواقع الثقافي في هاتين الدائرتين الحضاريتين ـ الغربية والإسلامية ـ كليهما، يشهد انشغالاً بالمشكلات التي تواجه عالمنا وتحديات العصر. وهي جميعاً عالمية الطابع، وإن كانت درجة إلحاح كل منهما، تختلف بين دائرة وأخرى، شأن حجم المشكلة وقوى التحدي.
لقد تناولت تقارير دولية ودراسات كثيرة بالحديث هذه المشكلات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والفلسفية والسياسية، وأشارت إلى المديونية والعجز التجاري، وانخفاض المدخرات والاستثمار، وانعدام المنافسة الصناعية على الصعيد الاقتصادي، وإلى عدم كفاية الرعاية الصحية، وضعف جودة التعليم، وتدهور البيئة الاجتماعية الأساس، والتدهور الحضري الواسع، وبروز شرائح غنية جشعة وتفاقم فقر الكثيرين ومرض الادعاء القضائي، وتفاقم مشكلة العنصرية، وانتشار الجريمة والعنف، وضعف الأسرة على الصعيد الاجتماعي، والإباحية المفرطة المثيرة للشهوة، وترويج الفساد الخلقي عبر التلفزة، وتدهور الوعي المدني، وظهور ثقافات تكمن فيها الفرقة على الصعيد الثقافي، وظهور دائرة مغلقة في النظام السياسي، وشيوع إحساس عام متزايد بالفراغ الفكري على الصعيد الفكري الفلسفي.
وممن درس هذه المشكلات في أمريكا مستشار الأمن القومي السابق زبجنيو بريزنسكي (Zbigniew Brezinsky) في كتابه “الانفلات: الغليان العالمي على مشارف القرن الحادي والعشرين” (Out of Control ; Global Turmoil on the Eve of the21 st Century) وتتبع كيف تفعل هذه المشكلات فعلها في دولة تحتل موقعاً قيادياً في النطاق العالمي السائد الذي تلح قضية إصلاحه على كثير من المفكرين. كما قال كاتب هذه الدراسة في كتابه “تجديد الفكر استجابة لتحديات العصر”. الحق أن المجلات العلمية المختصة في هذه المجالات جميعها، تتضمن الكثير في وصف هذه المشكلات والتحديات وتعليل أسبابها واقتراح أفكار لمعالجتها والاستجابة لها.
ونشير إلى أمثلة وقف أمامها كاتب هذه الدراسة بمناسبة عكوفه عليها، فهذه المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية خصصت عددها رقم 126، الصادر في نوفمبر 1990 م، للتغيرات في أنماط الأسرة بفعل الهندسة الوراثية والعوامل السكانية والسياسات الأسرية والقيم. ولا يتسع المجال لأكثر من هذه الإشارة. وهذه مجلة رسالة اليونسكو في عدد مارس 1999م، تعرض لمشكلة الفقر وتشرح مقاييسه وتتناوله في ملف بعنوان: (صفقة جديدة للفقراء). وكانت المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية قد خصصت عددا لتغيير الأماكن الحضرية في عالمنا وما نجم عن ذلك من تفكك أوصال المدن وتغيير المفاهيم التي تحدد معنى الحضر، وآثار ذلك على الأسرة، وقد عقدت محافل علمية في دائرة الحضارة الإسلامية، عدداً من المؤتمرات والندوات لمعالجة هذه المشكلات والتحديات، من أمثلتها تلك التي نظمها المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) بالأردن، وأكاديمية المملكة المغربية، وبدا واضحاً أهمية البعد الثقافي في هذه المؤتمرات والندوات.
إن المتأمل في هذه المشكلات يلاحظ أنها ناجمة عن قصور في الرؤية الكونية للعالم وللإنسانية، ينجم عنه فصل العقل عن الضمير، والسلام عن العدل، والضرورات عن الأشواق، فتختل التصرفات ويحدث الطغيان.. طغيان الإنسان على أمّه الأرض، وطغيان الإنسان على أخيه الإنسان، وطغيان الإنسان على نفسه، ومن هنا تأتي أهمية توافر الرؤية الكونية السليمة.
وفي ضوء ما سبق، نستطيع، ونحن نسعى معاً، مسيحيين ومسلمين، لتطوير عالمنا إيجابياً، أن نتصور دور المسلمين في التطور الثقافي، انطلاقاً من إيمانهم بدينهم الإسلام الذي يزودهم برؤية كونية مؤمنة بالله سبحانه وتعالى خالق كل شيء، الذي أحسن كل شيء خلقه، وخلق الإنسان من طين وعلمه البيان.
– تصور لدور المسلمين في التطوير الثقافي:
يتضمن دور المسلمين في التطور الثقافي في عالمنا، العناية بالفرد الإنسان ذكراً وأنثى، وتزويده برؤية كونية مؤمنة تمكنه من تغيير النفس “الأمارة بالسوء”، لتغدو “لوّامة”، “فمطمئنة”، في “ارتقاء” بالذات، وذلك بالتزام قيم الدين. وحين نقف أمام مفهوم “القيمة” في الدين، نجد أنه “يبرز ما للتعاليم والوحي السماوي من شأن في الحكم على قيم الأشياء والأعمال، فتكبر بشعور ما يترتب عليها من ثواب. وخطاب الله هو الفيصل في الحكم على الحسن والقبيح هو ما خالف الشرع ويترتب عليه العقاب في الآخرة. فأعمال الدنيا مقومة حسب نتيجتها في الآخرة من حيث ما تحصله للإنسان من حسن الأفعال أو قبحها”، كما أورد د. إبراهيم مدكور في معجم المصطلحات الاجتماعية، وإن أهم ما في القيم الروحية التي جاءت بها التعاليم السماوية، أن مصدرها وحي إلهي، وأنها تعتمد على الأرض وما بعد الحياة.
ومن هنا تأتي قوة تأثيرها في دائرتي الفرد والمجتمع على السواء فهي في المجتمع تحكم العلاقات بين الأفراد وتوجهها، وهي في الفرد، تحيي ضميره وتصل بينه وبين خالقه علاقة خاصة يعبد فيه الله كأنه يراه، “فإن لم تكن تراه ـ أيها الإنسان ـ فإنه يراك”، وهذا هو معنى الإحسان كما جاء في الحديث الشريف. وباتباع هذا السبيل تكون مواجهة خطر طغيان الإنسان على نفسه الناجم عن اتباعه الهوى، و”دس” النفس والبغي بغير حق، فينهى الإنسان نفسه عن الهوى، ويزكي نفسه ويلتزم الحق. ويستشعر من ثم معنى تكريم الله الذي خلقه، له ولبني آدم. وقد توقف آرنولد توينبي (Toynbee) في كتابه “الإنسان وأمه الأرض” (Mankind and Mother Earth) أمام حقيقة أن الإنسان مخلوق واع، ولاحظ أن الضمير مستقر في أعماقه، وأن ثورة الضمير البشري ضد الشر دليل على أن الإنسان قادر على أن يكون خيراً، وإذا كان هناك شر موجود في المحيط الحيوي، فإن فيه أيضاً ضميراً يدين ما هو شر ويكرهه. وواضح أن الأرض وهداه النجدين وسخر له ما شاء من إبداع خلقه. فهو حامل أمانة مكرم، وأن لنا أن نثق بقدرته الخلاقة حين يؤمن ويعمل الصالحات على التطور المطرد في معراج المثل الأعلى، على حد قول محمد إقبال.
إنّ القيام بهذا الدور على صعيد الفرد الإنسان والنجاح فيه، كفيل بتغيير المناخ النفسي الذي يغلب فيه الإحباط واليأس والتشاؤم اليائس من الجنس البشري، إلى التفاؤل الفاعل والثقة بانتصار الخير وبالقدرة على التغيير لما هو أحسن.
يركز دور المسلمين في التطوير الثقافي في عالمنا على العناية بالإنسان في الاجتماع الإنساني، وعلاقته بأخيه الإنسان، ومكانه في المجتمع، وما عليه من واجبات وما له من حقوق. وهو يؤكد على مبدأ المساواة بين البشر في إنسانيتهم، فالله خلقهم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، فكانا ذكراً وأنثى بعضاً من بعض، وكلهم سواسية كأسنان المشط والله سبحانه، شاء لحكمة أن تختلف ألسنتهم وألوانهم، واحدة من آياته، وأن تتعدد أقوالهم ومللهم، ومن ثم ثقافتهم. وفي ذلك تنوع رائع يغني الحياة الإنسانية على هذا الكوكب الأرضي. وهكذا فلا مكان للعنصرية ولا فضل للون على آخر، ولا لقوم على قوم. وباطل كل ما يقال غير ذلك، ولو زعم أنه يستند إلى العلم، كما يدعي الآن بعض العاملين في الهندسة الوراثية الذين يستغلون اسم العلم لتعميم أفكارهم العنصرية. ولا مكان لزعم الانفراد الحضاري، تدعيه حضارة واحدة ترى كل من سواها “برابرة”، لأن تعدد الثقافات حقيقة، ومثله تعدد الحضارات.
إنّ القيام بهذا الدور على صعيد الاجتماع الإنساني والنجاح فيه، كفيل بمواجهة شطط “العولمة” وتجاوزاتها في محاولة فرض نموذج ثقافي بعينه، خدمة لأغراض اقتصادية، ومحاصرتها “بالعالمية” التي تعتمد تعارف الثقافات والحضارات وحوارها وتفاعلها الإيجابي دونما فرض قسري. “فليس هناك بلد في العالم ـ ولا قارة ـ يمكنه الادعاء بأنه نموذج يتعين على باقي الكوكب الأرضي أن يحذو حذوه، وإلا تعرض للافتقار أو الزوال”، كما أوضح ألين تورين في مقاله “الحداثة والخصوية الثقافية” بالمجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، نوفمبر 1988م. وإن محاولة أمركة الثقافة وفرض سياسة الحماية الثقافية “بالعولمة”، تواجه معارضة قوية، كما أوضح جريجوري كلايز في مجلة ديوجين، الصادرة عن اليونسكو، العدد 80، عدد إبريل 1988م، في معرض حديثه عن هذه المحاولة في أوروبا وبقية العالم. وهو يصفها بأنها “فصل في مسرحية طويلة ومستمرة تحاول فيه الثقافة الأمريكية الفتية والعدوانية أن تضرب الثقافة العريقة في أوروبا وتمحو الثقافات الأخرى في العالم”. وقد أوضح إس.سي.ديوب (S.C. Dube) من الهند، في حديثه عن الأبعاد الثقافية للتنمية بالمجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، نوفمبر 1988م “أن ثمة افتراضاً خاطئاً يتمثل في اصطناع تناقض بين التقاليد والحداثة”، وبيّن أن أحدهما لا ينفي الآخر، ولاحظ تزايد الوعي الذاتي بالثقافة والإصرار العنيد عليها، معللاً ذلك بأنه حرص على الذاتية الثقافية وخوف من ضمورها واختفائها. وانتهى إلى القول ان الذاتيات الثقافية لن تندثر، فلا جدوى من محاولة طمسها. وهذا كله يؤكد إمكان النجاح في هذا الدور على صعيد الاجتماع الإنساني.
مبدأ آخر يرتكز عليه دور المسلمين في التطوير الثقافي في عالمنا، وهو مبدأ العدل بين الناس وتكافلهم. وإقامة العدل هي الكفيلة باستتباب السلام، كما أن غيابه يؤدي إلى ظهور مسببات التوتر في المجتمعات والدول، من استعلاء واستغلال وتعصب وإرهاب. وقد حفلت كتب “تدبير الممالك” التي ظهرت في الحضارة الإسلامية، بالحديث عن العدل، ومنها كتاب ابن أبي الربيع “سلوك المالك في تدبير الممالك” الذي اعتبر العدل أحد أركان المملكة الأربعة الذي يتكامل مع الملك والرعية والتدبير. وقد قسّمه إلى ثلاث أقسام، هي ما يقوم به العباد من حق الله عليهم، وما يقومون به من حق بعضهم على بعض، وما يقومون به من حقوق أسلافهم. ولعل أبسط تعريف للعدل، هو أن يحب المرء للآخر ما يحبه لنفسه، ولا يرضى للآخر ما لا يرضاه لنفسه. والعدل يدعو إلى تحقيق التكافل الاجتماعي.
إنّ القيام بهذا الدور على صعيد الاجتماع الإنساني والنجاح فيه، كفيل بنشر ثقافة تساعد على معالجة مشكلة الفقر المتفاقمة في عالمنا على صعيد المجتمع الواحد، وعلى صعيد دول غنية وأخرى فقيرة، وكذلك على معالجة المشاكل الأخرى الخاصة بالأسرة والمرأة والشباب التي تناولتها البيانات المسيحية – الإسلامية والتقارير الدولية. وقد فصلت الحديث عنها دراسات كثيرة.
إنّ هذا التطوير الثقافي يدعو أيضاً إلى التمسك بمبدأ التعارف وصولاً إلى التعاون على البرّ والتقوى، مع دعوته للتمسك بمبدأ وحدة أصل البشرية، ومبدأ المساواة، ومبدأ العدل والتكافل. وهذا يعني أن الأصل هو تعاون الحضارات لا صراعها، وأن المجتمع الإنساني مدعو إلى الوصول بكل تياراته، إلى كلمة سواء هي العمل لصالح الإنسان، وأن بني البشر أن يستبقوا الخيرات. وهكذا يكون الإسهام في مواجهة خطر طغيان الإنسان على أخيه الإنسان.
واضح أن الثقافة التي تستند إلى هذه الرؤية المؤمنة، كفيلة بمعالجة الغلو والتطرف، لكونها تحث على “الوسطية” و”الاعتدال”، وتدعو إلى “التوازن”. وهذا ما يجعلها قادرة على الإسهام في مواجهة خطر طغيان الإنسان على البيئة. ولافت للنظر أن فكرة “التوازن” تنتشر اليوم لتتكامل مع فكرة “النمو” في أوساط المعنيين بالتنمية، خبراء وسياسيين على السواء.
وبعد:
تبرز مجموعة تساؤلات حول قيام المسلمين بدورهم في التطوير الثقافي في عالمنا، في ختام هذه الدراسة، وهي تتصل بالمتطلبات والكيفية والآلية، وتدعو إلى محاولة طرح إجابات.
إنّ قيام إنسان عصرنا بدوره في التطوير الثقافي يتطلب نهوضه، وهذا يصدق على المؤمنين مسيحيين ومسلمين، والنهوض يتحقق بالروح الوثابة، وتغيير النفس إيجابيا بتزكيتها، وإعمال الفكر، وبالسلوك القدوة الذي يجعل من صاحبه أسوة حسنة، وهكذا فإن قيام المسلمين بهذا الدور، يتطلب أن تتابع القيادات الروحية والفكرية العمل لتحقيق النهوض في مجتمعنا، وتجاوز ما يحفل به الواقع الثقافي من سلبيات، والنجاح في إقناع القيادات السياسية بتبني برنامج النهضة الثقافية. وهو يتطلب أيضاً التعاون مع المؤمنين في عالمنا للعمل معاً لمعالجة المشكلات العالمية، سواء في دائرتهم الحضارية الإسلامية، أو في دوائر الحضارات الأخرى التي يعيشون فيها.
حقيقة ثانية تلفت نظرنا في هذا الواقع، هي أنه يشهد تغيرات ومحاولات تغيير وتطورات ومحاولات تطوير في كل دوائر العالم الحضارية، وهذه التغيرات والتطورات وثيقة الصلة بالسياسة، والاقتصاد، والاجتماع، وتبادل التأثير معها.
حقيقية ثالثة، هي أن الوعي بالعامل الثقافي في الاجتماع الإنساني، هو اليوم قوي يدعو إلى أخذه في الاعتبار عند معالجة مختلف قضايا عالمنا ومشكلاته، وهذا عند ألين تورين(AlainTouraine) – عالم الاجتماع في مقاله “التحولات الاجتماعية في القرن العشرين” بالمجلة الدولية للعلوم الاجتماعية (يونيو 1998م) – هو الاختلاف الجوهري بين نهاية القرن التاسع عشر، شديد الانشغال بالعامل الاقتصادي والعامل العقيدي (الأيديولوجي)، وقد فشلت محاولات القفز فوق هذا العامل الثقافي التي قام بها بعض مخططي السياسة الخارجية الأمريكيين في الثمانينيات، كما أوضح ميشيل فلابوس (Michel Flapos) في بحثه “الثقافة والسياسة الخارجية” الذي نشره في مجلة السياسة الخارجية (Foreign Policy) في ربيع 1991 م، وقرر فيه أن الحقيقة الكبرى بالنسبة للقبائل العالمية، هي منطقتها الثقافية وليس القرية العالمية، ملاحظاً أن العالم الكبير نفسه هو سلسلة من المناطق الثقافية يخفق كل منها بنبض مئات الملايين، وانتهى فلابوس في بحثه إلى أن الإحساس بالنفس عند الشعوب يتشكل على مستوى المنطقة الثقافية، وليس على مستوى القومية أو الأممية.
وهذا الوعي بأثر العامل الثقافي ينطلق، كما أوضح كاتب هذه الدراسة في كتابه “عمران لا طغيان” من حقيقة الانتماء لدائرة عمران حضاري فهذا الانتماء الذي يتمثل مشاعر القوم ويستند إلى رؤى العقيدة، يورث الإحساس بالنفس ووعي الذات والشعور بالهوية.
حقيقة رابعة، هي أن هناك تفاعلاً جارياً بين الثقافات على صعيد المجتمع داخل الدولة الواحدة، وعلى صعيد المجتمعات بين الدول وهذا التفاعل الثقافي يقع في إطار التفاعل الحضاري بين الحضارات التي تضم كل واحدة منها عدداً من الثقافات، ويشهد هذا التفاعل صوراً من الحوار الإيجابي الذي يثمر تعاوناً، كما يشهد أحياناً صراعاً، ولقد شهد عالمنا خلال العقد الاخير من السنين، محاولة لجعل صراع الحضارات هو الأصل، وقام بالترويج لهذه الفكرة مراكز بحث أمريكية، وظهرت ردود أفعال واستجابات قوية لهذه المحاولة في مختلف الدوائر الحضارية، شهدت التأكيد على أن هدف التعاون بين الحضارات لمعالجة قضايا عالمنا ومشكلاته هو الأصل، ومن بين أمثلة كثيرة على هذه الاستجابات: المؤتمر الدولي الذي دعت إليه منظمة تضامن الشعوب الإفريقية الآسيوية والذي انعقد في القاهرة بين 10 و12 مارس 1997 م، بمشاركة مفكرين وسياسيين من مختلف أنحاء العالم، ناقشوا تساؤلاً مطروحاً هو “صراع الحضارات أم حوار الثقافات؟” وظهرت أعماله في كتاب قيم.
حقيقة خامسة، هي أن مختلف الحضارات الموجودة في عالمنا اليوم، تتبادل التأثر والتأثير فيما بينها بدرجات متفاوتة، وتقف واحدة منها هي الحضارة الغربية بثقافاتها، في أعلى سلم التأثير، وتحتل مكانة خاصة لما حققته في القرون الخمسة الأخيرة على صعيد العلم، وبفعل ما حدث من خروج أوروبي إلى القارات الأخرى وقيام دول أوروبية بالاستعمار بمختلف أشكاله في أوطان شعوب أخرى وتبرز اليوم في الدائرة الحضارية الغربية، محاولات قوى الهيمنة في الولايات المتحدة الأمريكية، للتحكم في النظام العالمي والانفراد بقيادته رافعة شعار “النظام العالمي الجديد”، والسيطرة على الأسواق العالمية من خلال فرض “عولمة ” خططت لها الشركات الكبرى عابرة القارات، وقد أصبحت هذه العولمة ظاهرة لها أبعاد أخرى سياسية وفكرية وثقافية، وصار لها ثقافة تعرف بها هي “ثقافة العولمة” تحاول فرض أنماط تفكير وأساليب حياة “المجتمع الأمريكي” على المجتمعات الأخرى.
حقيقة سادسة، هي أنّ البُعد الروحي في مختلف الثقافات، يبدو جلياً، من خلال قوة تأثير القيم الروحية وهناك اليوم في الدوائر الحضارية، ظاهرة “إحياء روحي” يستلهم “المقدس” وهكذا يبرز دور الدين في الثقافة، وقد تناول كاتب هذا الحديث هذه الظاهرة في كتابه “تجديد استجابة لتحديات العصر” الذي خصص الباب الثالث فيه للفكر الديني، وكان مما أشار إليه قيام اليونسكو بتنظيم سلسلة ندوات عن “إسهام الاديان في ثقافة السلام”.
– دائرتان حضاريتان:
تشهد أوساط المسيحيين والمسلمين صوراً من هذا الإحياء الديني نراها في الدائرتين الحضارتين اللتين يعيش معظمهم فيهما، وهما دائرة الحضارة الغربية، ودائرة الحضارة الإسلامية، فأما الأولى، فقد كانت المسيحية أحد مكوناتها، ويعيش فيها مسيحيون كثيرون من الكاثوليك والارثوذكس والبروتستانت، وضمت منذ القديم عدداً من المسلمين تزايدت أعدادهم في نصف القرن الأخير، ويلاحظ إنجمار كارلسون (Ingmar Carlson) مدير التخطيط السياسي في وزارة الخارجية السويدية، في معرض رده على مقولة صموئيل هنتغتون حول صراع الحضارات: “انّ الثقافة الإسلامية ليست غريبة عن الغرب، حيث استمر الوجود الإسلامي في أوروبا طويلاً، وأدى إلى تكامل فريد بين الرسالات الثلاث، وإلى ازدهار لم يسبق له مثيل للعلم والفلسفة، واليوم يوجد في أوروبا حسب تقديره، أكثر من عشرة ملايين مسلم قد يصل عددهم في حدود عام 2020م إلى ما بين 25 و60 مليوناً، بحيث لم يعد في الإمكان تصور الاتحاد الاوروبي دون مكون إسلامي له” وقد استوقف هذا القول ماهر الشريف في بحثه “أطروحتا نهاية التاريخ وصدام الحضارات” الذي قدّمه إلى مؤتمر “صراع الحضارات أم حوار الثقافات”.
وأمّا الدائرة الأخرى، فقد استلهمت رسالة الإسلام، وهي تضم مسلمين كثيرين من مختلف المذاهب، وقد شارك في ازدهارها مسيحيون يعيشون فيها ويهود أيضاً وأتباع ملل أخرى، وهؤلاء جميعاً ينتمون إليها، الأمر الذي جعل للإسلام في مصطلح الحضارة الإسلامية، مدلولاً حضارياً، فضلاً عن مدلول سلسلة الرسالات التي جاء بها الأنبياء (إنّ الدين عند الله الإسلام) (آل عمران/ 19)، ومدلول الرسالة الخاتمة التي نزل بها الوحي على محمد بن عبد الله (ص).
– الواقع الثقافي في الحضارتين الغربية والإسلامية:
حين يكون الحديث عن دور مشترك للمسيحين والمسلمين يقومون به لمعالجة قضايا عالمنا، فإن من الضروري، بعد أن تعرفنا على حقائق الواقع الثقافي في عالمنا، أن نركز النظر على هذا الواقع الثقافي في هاتين الدائرتين الحضارتين، بغية الوقوف على المناخ المحيط به، ذلك لأن لهذا المناخ تأثيره على أداء الدور.
لقد صدرت دراسات كثيرة حول الواقع الثقافي في الغرب، فصلت الحديث عن مرحلة “ما بعد الحداثة” وهناك انطباع قوي لدى المختصين، بأن إحساساً بعدم اليقين يشيع في الأوساط الفكرية والثقافية، فعدد المثقفين والمفكرين الذين يتخوفون من شبح الخواء الفكري وتراجع الروح النقدية في الفكر الغربي – على اختلاف منطلقاتهم ومرجعياتهم – في تزايد وهؤلاء يعارضون الرأي القائل بـ”نهاية التاريخ” وان النموذج الاقتصادي والسياسي لليبرالية الغربية، وهو سقف التطلع الإنساني، كما أوضح ماهر الشريف في بحثه الذي سبقت الإشارة إليه، ولقد سبق لكاتب هذه الدراسة أن نظر في كيفية رؤية الأوروبيين أنفسهم في هذه المرحلة، معتمداً على أعمال ندوة هامبورغ حول العلاقة بين الحضارتين الغربية والعربية، ولاحظ فيه “أن كثيرين من الغربيين غير راضين عن الحالة الحاضرة التي عليها الحضارة في أوربا الغربية، وهم يعانون من مرورهم بفترة عصيبة تتصف بفقدان الحيوية الاقتصادية، ويحنقون على خضوع أوربا السياسي والعسكري للولايات المتحدة، ويشعرون بالغيظ لعجزهم عن مجاراة حيوية اليابان في الميدان الاقتصادي، وقد أصبح اقتناعهم بما كانوا يعتبرونه رسالتهم ضعيفاً وتعمق الشك لديهم فيما اعتبروه حقاً لهم من قبل” ويتداخل هذا الشك مع النقاش حول قيمة التقدُّم التقني، ويقول هؤلاء إن واقع الأمر في أوروبا الغربية يعطي انطباعاً بأن الأوروبيين يبتعدون عن ذواتهم، ويبدو هذا حتى في الفن الذي ينتجونه إذ يتضاءل فيه الطابع الأوروبي، وهم يلاحظون أن الخروج الأوروبي في عصر الاستعمار لغزو أوطان الآخرين لا يمكن تفسيره من منظور اقتصادي أو سلطوي فقط، وإنما في المقام الأول من منظور الوعي العميق بنشر “رسالة صاغتها عقيدة دينية وفلسفة دنيوية”، استمدوا منها مشروعية “تصرفاتهم الفاتكة والوحشية” مع الآخرين، كما أوضح إدوارد مورتيمر وجونتر ديهل في بحثيهما لندوة هامبورغ، ومجمل القول إن لسان حال هؤلاء الأوربيين الغربيين يقول: “نحن ننظر إلى وضعنا الحضاري الراهن بكثير من الريبة والشك” وتأتي تصريحات أسقف كانتربري وقت كتابة هذه الدراسة في أغسطس 1999م، حول عدد من القضايا العصرية لتقدم مثالاً على ذلك.
إنّ الواقع الثقافي في الغرب اليوم يدعو إلى التفكر في ظواهر لافتة أوجزها ألين تورين في بحثه “التحولات الاجتماعية في القرن العشرين” بالمجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، يونيو 1998 م، في ثلاث، هي: أن المؤسسات من كل الأنماط تتصدع، وانتصار ما يمكن تسميته “الفردانية” أو “النزعة الفردية” وقيام عالم بلا مؤسسات ذي نظرة تجمع بين العالمية والفردية في تزامن وتماكن، وقد أوضح تورين ان جميع هذه الخطوط ذات صلة بالتغيرات الثقافية وليس بالتغيرات الاجتماعية، وأن المشكلات اليوم هي تحطيم الروابط المؤسساتية والاجتماعية والثقافية وتحرير الفردية والمتعة والسعادة، مع انبثاق صراعات على المستويين العالمي والقومي.
في ظل هذا المناخ الثقافي تبرز “المغالاة” في أشكال كثيرة على مختلف الصعد ونحن نرى اليوم أمثلة على هذه المغالاة في الحياة الاجتماعية على صعيد الأسرة والتعامل مع الأجيال، أطفالاً وشباباً وشيوخاً، والأمر نفسه في الحياة الثقافية في عصر العولمة، ومع المغالاة يكون “التطرُّف”، ومن مظاهره “عنف” يطبع التصرفات، وتشتد الحاجة إلى سكينة النفس والعودة إلى التوازن والشواهد على ذلك كثيرة في مختلف الأقطار، وفي الولايات المتحدة الأمريكية بخاصة، حيث تفعل الثقافة السينمائية والتلفزية في انتشار العنف والشهرة.
يستدعي هذا الواقع الثقافي إلى الخاطر ما شهده القرن العشرون من أحداث تفاعلت في تكوينها أحوال مادية مع أفكار، وعانى العالم ودائرة الحضارة الغربية بخاصة، من حربين عالميتين، ثم من سلسلة حروب إقليمية، وحدثت ثورتا التقنية والتحرير، وظهرت آثار عصر الحداثة التي عزاها فرانسوا ليوتار(Francois Leotard) إلى التقدم في العلوم، وهكذا نجد هذا الواقع الثقافي في الغرب يشهد حوارات ساخنة حول مشكلات عالمنا والتحديات التي تواجهنا، يكون لها صداها في دوائر الحضارات الأخرى التي تشهد هي الأخرى هذه الحوارات.
حين نتأمل الواقع الثقافي في دائرة الحضارة الإسلامية، يلفت نظرنا وجود “حيوية” فيه، ومحاولات فكرية لمعالجة المشكلات، وحالة إحياء روحي، ونلاحظ أن المناخ السائد متقلب أحياناً، وأن الحيوية المفعمة بالحماسة والأمل والتوق إلى الإنجاز والعمل، تقترن بمشاعر إحباط ولايزال التدافع قوياً بين تياري الانكماش والانغماس، يحتدم فيه الصراع أحياناً في نطاق التفاعل مع الحضارة الغربية.
كما لايزال تيار الاستجابة الفاعل يحاول بلورة رؤيته لإسهام حضارته في العمران العالمي، وذلك بعد أن فشلت محاولات “التحديث” التي شارك فيها الانغماسيون قوى الهيمنة الاستعمارية التي تسلطت على ديار الإسلام. وتؤكد ظاهرة الإحياء في هذه الدائرة، على ضرورة اقتران العقل بالضمير في الإنسان، ومن ثم على الأخلاق، ويرتفع فيها نداء العمل لمعالجة المشكلات العالمية برؤية مؤمنة، ويبرز فيها العامل الثقافي الحضاري الذي “يصاحب دوماً أوقات التوتر والتغير والتحول، باعتباره يدعو إلى استمرار النضال في مواجهة عمليات الاقتحام”، كما يلاحظ أنور عبد الملك في بحثه “الوجه الحضارية في صنع العالم الجديد”.
– مشكلات لها بُعدها الثقافي:
واضح أن الواقع الثقافي في هاتين الدائرتين الحضاريتين ـ الغربية والإسلامية ـ كليهما، يشهد انشغالاً بالمشكلات التي تواجه عالمنا وتحديات العصر. وهي جميعاً عالمية الطابع، وإن كانت درجة إلحاح كل منهما، تختلف بين دائرة وأخرى، شأن حجم المشكلة وقوى التحدي.
لقد تناولت تقارير دولية ودراسات كثيرة بالحديث هذه المشكلات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والفلسفية والسياسية، وأشارت إلى المديونية والعجز التجاري، وانخفاض المدخرات والاستثمار، وانعدام المنافسة الصناعية على الصعيد الاقتصادي، وإلى عدم كفاية الرعاية الصحية، وضعف جودة التعليم، وتدهور البيئة الاجتماعية الأساس، والتدهور الحضري الواسع، وبروز شرائح غنية جشعة وتفاقم فقر الكثيرين ومرض الادعاء القضائي، وتفاقم مشكلة العنصرية، وانتشار الجريمة والعنف، وضعف الأسرة على الصعيد الاجتماعي، والإباحية المفرطة المثيرة للشهوة، وترويج الفساد الخلقي عبر التلفزة، وتدهور الوعي المدني، وظهور ثقافات تكمن فيها الفرقة على الصعيد الثقافي، وظهور دائرة مغلقة في النظام السياسي، وشيوع إحساس عام متزايد بالفراغ الفكري على الصعيد الفكري الفلسفي.
وممن درس هذه المشكلات في أمريكا مستشار الأمن القومي السابق زبجنيو بريزنسكي (Zbigniew Brezinsky) في كتابه “الانفلات: الغليان العالمي على مشارف القرن الحادي والعشرين” (Out of Control ; Global Turmoil on the Eve of the21 st Century) وتتبع كيف تفعل هذه المشكلات فعلها في دولة تحتل موقعاً قيادياً في النطاق العالمي السائد الذي تلح قضية إصلاحه على كثير من المفكرين. كما قال كاتب هذه الدراسة في كتابه “تجديد الفكر استجابة لتحديات العصر”. الحق أن المجلات العلمية المختصة في هذه المجالات جميعها، تتضمن الكثير في وصف هذه المشكلات والتحديات وتعليل أسبابها واقتراح أفكار لمعالجتها والاستجابة لها.
ونشير إلى أمثلة وقف أمامها كاتب هذه الدراسة بمناسبة عكوفه عليها، فهذه المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية خصصت عددها رقم 126، الصادر في نوفمبر 1990 م، للتغيرات في أنماط الأسرة بفعل الهندسة الوراثية والعوامل السكانية والسياسات الأسرية والقيم. ولا يتسع المجال لأكثر من هذه الإشارة. وهذه مجلة رسالة اليونسكو في عدد مارس 1999م، تعرض لمشكلة الفقر وتشرح مقاييسه وتتناوله في ملف بعنوان: (صفقة جديدة للفقراء). وكانت المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية قد خصصت عددا لتغيير الأماكن الحضرية في عالمنا وما نجم عن ذلك من تفكك أوصال المدن وتغيير المفاهيم التي تحدد معنى الحضر، وآثار ذلك على الأسرة، وقد عقدت محافل علمية في دائرة الحضارة الإسلامية، عدداً من المؤتمرات والندوات لمعالجة هذه المشكلات والتحديات، من أمثلتها تلك التي نظمها المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) بالأردن، وأكاديمية المملكة المغربية، وبدا واضحاً أهمية البعد الثقافي في هذه المؤتمرات والندوات.
إن المتأمل في هذه المشكلات يلاحظ أنها ناجمة عن قصور في الرؤية الكونية للعالم وللإنسانية، ينجم عنه فصل العقل عن الضمير، والسلام عن العدل، والضرورات عن الأشواق، فتختل التصرفات ويحدث الطغيان.. طغيان الإنسان على أمّه الأرض، وطغيان الإنسان على أخيه الإنسان، وطغيان الإنسان على نفسه، ومن هنا تأتي أهمية توافر الرؤية الكونية السليمة.
وفي ضوء ما سبق، نستطيع، ونحن نسعى معاً، مسيحيين ومسلمين، لتطوير عالمنا إيجابياً، أن نتصور دور المسلمين في التطور الثقافي، انطلاقاً من إيمانهم بدينهم الإسلام الذي يزودهم برؤية كونية مؤمنة بالله سبحانه وتعالى خالق كل شيء، الذي أحسن كل شيء خلقه، وخلق الإنسان من طين وعلمه البيان.
– تصور لدور المسلمين في التطوير الثقافي:
يتضمن دور المسلمين في التطور الثقافي في عالمنا، العناية بالفرد الإنسان ذكراً وأنثى، وتزويده برؤية كونية مؤمنة تمكنه من تغيير النفس “الأمارة بالسوء”، لتغدو “لوّامة”، “فمطمئنة”، في “ارتقاء” بالذات، وذلك بالتزام قيم الدين. وحين نقف أمام مفهوم “القيمة” في الدين، نجد أنه “يبرز ما للتعاليم والوحي السماوي من شأن في الحكم على قيم الأشياء والأعمال، فتكبر بشعور ما يترتب عليها من ثواب. وخطاب الله هو الفيصل في الحكم على الحسن والقبيح هو ما خالف الشرع ويترتب عليه العقاب في الآخرة. فأعمال الدنيا مقومة حسب نتيجتها في الآخرة من حيث ما تحصله للإنسان من حسن الأفعال أو قبحها”، كما أورد د. إبراهيم مدكور في معجم المصطلحات الاجتماعية، وإن أهم ما في القيم الروحية التي جاءت بها التعاليم السماوية، أن مصدرها وحي إلهي، وأنها تعتمد على الأرض وما بعد الحياة.
ومن هنا تأتي قوة تأثيرها في دائرتي الفرد والمجتمع على السواء فهي في المجتمع تحكم العلاقات بين الأفراد وتوجهها، وهي في الفرد، تحيي ضميره وتصل بينه وبين خالقه علاقة خاصة يعبد فيه الله كأنه يراه، “فإن لم تكن تراه ـ أيها الإنسان ـ فإنه يراك”، وهذا هو معنى الإحسان كما جاء في الحديث الشريف. وباتباع هذا السبيل تكون مواجهة خطر طغيان الإنسان على نفسه الناجم عن اتباعه الهوى، و”دس” النفس والبغي بغير حق، فينهى الإنسان نفسه عن الهوى، ويزكي نفسه ويلتزم الحق. ويستشعر من ثم معنى تكريم الله الذي خلقه، له ولبني آدم. وقد توقف آرنولد توينبي (Toynbee) في كتابه “الإنسان وأمه الأرض” (Mankind and Mother Earth) أمام حقيقة أن الإنسان مخلوق واع، ولاحظ أن الضمير مستقر في أعماقه، وأن ثورة الضمير البشري ضد الشر دليل على أن الإنسان قادر على أن يكون خيراً، وإذا كان هناك شر موجود في المحيط الحيوي، فإن فيه أيضاً ضميراً يدين ما هو شر ويكرهه. وواضح أن الأرض وهداه النجدين وسخر له ما شاء من إبداع خلقه. فهو حامل أمانة مكرم، وأن لنا أن نثق بقدرته الخلاقة حين يؤمن ويعمل الصالحات على التطور المطرد في معراج المثل الأعلى، على حد قول محمد إقبال.
إنّ القيام بهذا الدور على صعيد الفرد الإنسان والنجاح فيه، كفيل بتغيير المناخ النفسي الذي يغلب فيه الإحباط واليأس والتشاؤم اليائس من الجنس البشري، إلى التفاؤل الفاعل والثقة بانتصار الخير وبالقدرة على التغيير لما هو أحسن.
يركز دور المسلمين في التطوير الثقافي في عالمنا على العناية بالإنسان في الاجتماع الإنساني، وعلاقته بأخيه الإنسان، ومكانه في المجتمع، وما عليه من واجبات وما له من حقوق. وهو يؤكد على مبدأ المساواة بين البشر في إنسانيتهم، فالله خلقهم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، فكانا ذكراً وأنثى بعضاً من بعض، وكلهم سواسية كأسنان المشط والله سبحانه، شاء لحكمة أن تختلف ألسنتهم وألوانهم، واحدة من آياته، وأن تتعدد أقوالهم ومللهم، ومن ثم ثقافتهم. وفي ذلك تنوع رائع يغني الحياة الإنسانية على هذا الكوكب الأرضي. وهكذا فلا مكان للعنصرية ولا فضل للون على آخر، ولا لقوم على قوم. وباطل كل ما يقال غير ذلك، ولو زعم أنه يستند إلى العلم، كما يدعي الآن بعض العاملين في الهندسة الوراثية الذين يستغلون اسم العلم لتعميم أفكارهم العنصرية. ولا مكان لزعم الانفراد الحضاري، تدعيه حضارة واحدة ترى كل من سواها “برابرة”، لأن تعدد الثقافات حقيقة، ومثله تعدد الحضارات.
إنّ القيام بهذا الدور على صعيد الاجتماع الإنساني والنجاح فيه، كفيل بمواجهة شطط “العولمة” وتجاوزاتها في محاولة فرض نموذج ثقافي بعينه، خدمة لأغراض اقتصادية، ومحاصرتها “بالعالمية” التي تعتمد تعارف الثقافات والحضارات وحوارها وتفاعلها الإيجابي دونما فرض قسري. “فليس هناك بلد في العالم ـ ولا قارة ـ يمكنه الادعاء بأنه نموذج يتعين على باقي الكوكب الأرضي أن يحذو حذوه، وإلا تعرض للافتقار أو الزوال”، كما أوضح ألين تورين في مقاله “الحداثة والخصوية الثقافية” بالمجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، نوفمبر 1988م. وإن محاولة أمركة الثقافة وفرض سياسة الحماية الثقافية “بالعولمة”، تواجه معارضة قوية، كما أوضح جريجوري كلايز في مجلة ديوجين، الصادرة عن اليونسكو، العدد 80، عدد إبريل 1988م، في معرض حديثه عن هذه المحاولة في أوروبا وبقية العالم. وهو يصفها بأنها “فصل في مسرحية طويلة ومستمرة تحاول فيه الثقافة الأمريكية الفتية والعدوانية أن تضرب الثقافة العريقة في أوروبا وتمحو الثقافات الأخرى في العالم”. وقد أوضح إس.سي.ديوب (S.C. Dube) من الهند، في حديثه عن الأبعاد الثقافية للتنمية بالمجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، نوفمبر 1988م “أن ثمة افتراضاً خاطئاً يتمثل في اصطناع تناقض بين التقاليد والحداثة”، وبيّن أن أحدهما لا ينفي الآخر، ولاحظ تزايد الوعي الذاتي بالثقافة والإصرار العنيد عليها، معللاً ذلك بأنه حرص على الذاتية الثقافية وخوف من ضمورها واختفائها. وانتهى إلى القول ان الذاتيات الثقافية لن تندثر، فلا جدوى من محاولة طمسها. وهذا كله يؤكد إمكان النجاح في هذا الدور على صعيد الاجتماع الإنساني.
مبدأ آخر يرتكز عليه دور المسلمين في التطوير الثقافي في عالمنا، وهو مبدأ العدل بين الناس وتكافلهم. وإقامة العدل هي الكفيلة باستتباب السلام، كما أن غيابه يؤدي إلى ظهور مسببات التوتر في المجتمعات والدول، من استعلاء واستغلال وتعصب وإرهاب. وقد حفلت كتب “تدبير الممالك” التي ظهرت في الحضارة الإسلامية، بالحديث عن العدل، ومنها كتاب ابن أبي الربيع “سلوك المالك في تدبير الممالك” الذي اعتبر العدل أحد أركان المملكة الأربعة الذي يتكامل مع الملك والرعية والتدبير. وقد قسّمه إلى ثلاث أقسام، هي ما يقوم به العباد من حق الله عليهم، وما يقومون به من حق بعضهم على بعض، وما يقومون به من حقوق أسلافهم. ولعل أبسط تعريف للعدل، هو أن يحب المرء للآخر ما يحبه لنفسه، ولا يرضى للآخر ما لا يرضاه لنفسه. والعدل يدعو إلى تحقيق التكافل الاجتماعي.
إنّ القيام بهذا الدور على صعيد الاجتماع الإنساني والنجاح فيه، كفيل بنشر ثقافة تساعد على معالجة مشكلة الفقر المتفاقمة في عالمنا على صعيد المجتمع الواحد، وعلى صعيد دول غنية وأخرى فقيرة، وكذلك على معالجة المشاكل الأخرى الخاصة بالأسرة والمرأة والشباب التي تناولتها البيانات المسيحية – الإسلامية والتقارير الدولية. وقد فصلت الحديث عنها دراسات كثيرة.
إنّ هذا التطوير الثقافي يدعو أيضاً إلى التمسك بمبدأ التعارف وصولاً إلى التعاون على البرّ والتقوى، مع دعوته للتمسك بمبدأ وحدة أصل البشرية، ومبدأ المساواة، ومبدأ العدل والتكافل. وهذا يعني أن الأصل هو تعاون الحضارات لا صراعها، وأن المجتمع الإنساني مدعو إلى الوصول بكل تياراته، إلى كلمة سواء هي العمل لصالح الإنسان، وأن بني البشر أن يستبقوا الخيرات. وهكذا يكون الإسهام في مواجهة خطر طغيان الإنسان على أخيه الإنسان.
واضح أن الثقافة التي تستند إلى هذه الرؤية المؤمنة، كفيلة بمعالجة الغلو والتطرف، لكونها تحث على “الوسطية” و”الاعتدال”، وتدعو إلى “التوازن”. وهذا ما يجعلها قادرة على الإسهام في مواجهة خطر طغيان الإنسان على البيئة. ولافت للنظر أن فكرة “التوازن” تنتشر اليوم لتتكامل مع فكرة “النمو” في أوساط المعنيين بالتنمية، خبراء وسياسيين على السواء.
وبعد:
تبرز مجموعة تساؤلات حول قيام المسلمين بدورهم في التطوير الثقافي في عالمنا، في ختام هذه الدراسة، وهي تتصل بالمتطلبات والكيفية والآلية، وتدعو إلى محاولة طرح إجابات.
إنّ قيام إنسان عصرنا بدوره في التطوير الثقافي يتطلب نهوضه، وهذا يصدق على المؤمنين مسيحيين ومسلمين، والنهوض يتحقق بالروح الوثابة، وتغيير النفس إيجابيا بتزكيتها، وإعمال الفكر، وبالسلوك القدوة الذي يجعل من صاحبه أسوة حسنة، وهكذا فإن قيام المسلمين بهذا الدور، يتطلب أن تتابع القيادات الروحية والفكرية العمل لتحقيق النهوض في مجتمعنا، وتجاوز ما يحفل به الواقع الثقافي من سلبيات، والنجاح في إقناع القيادات السياسية بتبني برنامج النهضة الثقافية. وهو يتطلب أيضاً التعاون مع المؤمنين في عالمنا للعمل معاً لمعالجة المشكلات العالمية، سواء في دائرتهم الحضارية الإسلامية، أو في دوائر الحضارات الأخرى التي يعيشون فيها.